استمع إلى الملخص
- يوضح الفيلم العقبات التي تواجهها شركات التكنولوجيا مثل "غوغل" في تبني الطاقة النووية، بما في ذلك الدعاية السلبية، ويمثل كيف مولت شركات النفط حملات ضد الطاقة النووية لحماية مصالحها.
- تتجه شركات كبرى مثل "غوغل" و"ميكروسوفت" نحو الطاقة النووية كبديل للأحفورية، مما قد يغير الرأي العام ويدعم الطاقة النووية كحل مستدام.
يختزل المخرج الأميركي أوليفر ستون، في فيلمه الوثائقي Nuclear Now، الصادر في عام 2022، السياسات الدولية التي تصور الطاقة النووية بُعبعاً يهدّد البشرية جمعاء، ويكشف جملةً من الحقائق الصادمة عن حملات التشويه الممنهجة التي تعرضت لها الطاقة النووية السلمية، منطلقاً في فيلمه من عبارة له على لسان راوي الفيلم تكثف مضمون ما سيطرحه الوثائقي: "دُرِّبنا على التوجّس من الطاقة النووية والذعر من الإشعاع، وأصبحت هذه المخاوف في لاوعينا".
يطرح ستون في فيلمه الاستشرافي قضية الطلب العالمي العالي على الطاقة، في ظلّ المخاطر التي تواجه المناخ، والتي ربما ستصبح التحدي الأكبر أمام البشرية في السنوات المقبلة، الأمر الذي اتضح مع ظهور الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته، فما لا يعرفه كثيرون هو أن الطاقة هي لاعب خفي يكاد لا يذكر عند الحديث عن الذكاء الاصطناعي، مع أنّها ربما تكون الجندي المجهول خلف كل الإنجازات التي نراها اليوم.
في الأسابيع القليلة الماضية، نشرت شركة غوغل عقداً مثيراً للاهتمام يجمع الشركة الأم ألفابت مع شركة Kairos Power، وهي شركة أميركية متخصصة في تطوير نمط خاص من مفاعلات نووية صغيرة قد تصبح حلاً ناجعاً لتأمين الطاقة اللازمة. كانت Kairos Power واحدة من الشركات التي جاء ستون على ذكرها عندما استعرض الإمكانيات الكامنة للطاقة النووية وتجارب الشركات الرائدة في هذا المجال.
نقص الطاقة في ظل الازدياد الكبير على الطلب، يمكن أن يكبح تطور الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته. وإذا أردنا توضيح حجم المشكلة الحالية، يمكننا النظر إلى ما قاله أحد أبرز رواد ميدان التكنولوجيا، وهو الملياردير إيلون ماسك، الرئيس التنفيذي لشركة تسلا الأميركية للسيارات الكهربائية، الذي اعتبر أن إمدادات الكهرباء ستكون حاسمة أمام تطوير الذكاء الاصطناعي في العام أو العامين المقبلين. وفي السياق ذاته، قدمت منصة Digiconomist التي تركز على تحليل الآثار الاقتصادية والتكنولوجية للاتجاهات الرقمية، أرقاماً صادمة لحجم استهلاك الذكاء الاصطناعي للطاقة وكمية الطلب المتوقع مستقبلاً؛ فأشار مؤسس المنصة الهولندي، الباحث أليكس دي فريس، إلى أن قطاع الذكاء الاصطناعي قد يستهلك ما بين 85 إلى 134 تيراواط ساعي من الكهرباء سنوياً بحلول عام 2027.
ونظراً إلى صعوبة إدراك هذه الأرقام، يوضح لغير المختصين أن الرقم قد يعادل ما يستهلكه بلد متطور مثل هولندا من الطاقة سنوياً. وهنا وجدت شركات التكنولوجيا العملاقة نفسها في مأزق، فتأمين هذا الكم من الطاقة سيكون كارثياً على البيئة إذا اعتمدوا على الطاقة الأحفورية التقليدية، إلا أن ما أثار حفيظتهم كان بالطبع مسألة أخرى تماماً، وهي تأمين الموارد المالية اللازمة من دون أن يؤثر ذلك على المرابح الهائلة المتوقعة. وهنا بدأ البحث عن وسائل لتأمين الطاقة بالاعتماد على المصادر البديلة، كالرياح والشمس وغيرها، لكن السعي إلى خفض الكلفة، دفعهم نحو الطاقة النووية السلمية، ووجدوا ضالتهم عند شركات مثل Kairos Power.
ومع أن هذا التوجه يبدو حتمياً في ظل هذا الكم من التعقيدات، إلا أن "غوغل" تواجه جملة من العقبات يمكن حصرها باتجاهين أساسيين: الأول هو ضرورة تطوير البنية القانونية الحالية بما يسمح في تطوير وبناء مفاعلات نووية صغيرة معيارية (SMRs)، كتلك التي ستعتمدها الشركة، ليس في الولايات المتحدة وحدها، بل أيضاً في دول أخرى تستضيف مراكز بيانات لـ"غوغل". أما الاتجاه الثاني، فيرتبط بحجم الدعاية السلبية التي تعرضت لها مجالات توليد الطاقة النووية، وهو تحديداً ما دفع أوليفر ستون إلى إنجاز "الطاقة النووية الآن"؛ إذ عرض أمثلة كثيرة توضح طبيعة الدعاية المضادة للطاقة النووية السلمية، منها أن رجل الأعمال الأميركي روبرت أندرسون (مؤسس شركة أتلانتيك ريتشفيلد، سادس أكبر شركة نفط في الولايات المتحدة)، منح بحسب الوثائقي شيكاً بقيمة 200 ألف دولار باعتبار ذلك خطوة أولى لتمكين الناشط البيئي ديفيد براور من تأسيس منظمته الشهيرة Friends of the Earth (أصدقاء الأرض) في عام 1969.
يطرح ستون في الفيلم سؤالاً مشروعاً عن اللغز الذي قد يدفع أحد عمالقة النفط إلى تمويل منظمة بيئية. ويستقصي عن الإجابات، فيتبين أن Friends of the Earth ركزت هجومها على الطاقة النووية السلمية، وذلك تحديداً لما يعنيه بناء المفاعلات من تهديد لمصالح شركات النفط والغاز التي استثمرت بالفعل مليارات الدولارات في البنية التحتية للطاقة الأحفورية، ورأت في أي اكتشاف علمي جديد تهديداً لمصالحها الاقتصادية، إذن فمنبع الترهيب من الطاقة النووية اقتصادي.
يشير أوليفر ستون في معرض الفيلم إلى حجم الدعاية الممولة والموجهة نحو شرائح واسعة من الناس، وهدفها جعل الطاقة النووية مصطلحاً مضاداً للأمن البيئي، إذ أطلقت منظمة ديفيد براور الناشئة سلسلة من النشاطات للتأثير على الرأي العام والسياسيين، وكانت واحدة من المساهمين الأساسيين في عمل مجموعة "موسيقيون متحدون من أجل الطاقة الآمنة" (MUSE)، التي نظّمت عام 1979 حفلات موسيقية عرفت باسم No Nukes Concerts وشاركت فيها مجموعة من الفنانين الشهيرين، مثل جيمس تايلور وبروس سبرينغستين ونيل يونغ. أدت Friends of the Earth دوراً بارزاً في إغلاق وإيقاف بناء المفاعلات النووية في أوهايو، تحديداً بعد حادثة انصهار جزئي في أحد المفاعلات في منطقة ثري مايل آيلاند في بنسلفانيا
الحادثة تحوّلت إلى سلاح في يد مناهضي استخدام الطاقة النووية، على الرغم من أن حالة وفاة واحدة لم تسجل بسبب الحادث. يشير الفيلم إلى أن الحركة نجحت في إيقاف ستة من أصل ثمانية مفاعلات، ما نتج عنه أن تعود أوهايو خطوات إلى الوراء وتعتمد على الفحم الحجري، الشديد الانبعاثات والأكثر تلويثاً للبيئة، في توليد ثلثي الطاقة الكهربائية في الولاية، الأمر الذي "تسبب في مقتل نصف مليون شخص في جميع أنحاء العالم سنوياً وإصابة ملايين آخرين بآثار مروعة، مثل السرطان وانتفاخ الرئة وأمراض القلب"، حسب الفيلم. كل هذا تجاهلته، عمداً، الحفلات الموسيقية في أميركا أو مثيلاتها، مثل "الطاقة النووية؟ لا شكراً" في الممكلة المتحدة 1980، وحفلات "تشيرنوبل" في أوروبا 1986.
اليوم، تتجه شركات التكنولوجيا إلى خيارات مختلفة عن شركات النفط العملاقة، وربما تستطيع شركات كبرى مثل "غوغل" و"ميكروسوفت" و"تسلا" أو حتى OpenAI، أن تؤدي دوراً مناقضاً تماماً لأدوار عمالقة العصر القديم الذين تحدث عنهم ستون في فيلمه، خصوصاً من باب المصلحة الاقتصادية، وليس الحرص على البيئة. بحسب مايكل توماس، وهو أحد الباحثين في إدارة معلومات الطاقة الأميركية، تستهلك "غوغل" و"ميكروسوفت"، كلّ على حدة، ما يعادل استهلاك أكثر من 100 دولة في العالم.
أما "غوغل"، فقالت في إعلانها الرسمي عن العقد الجديد إنها تؤدي دوراً محورياً في تسريع حلول الطاقة النظيفة بما في ذلك الجيل القادم من التقنيات النووية المتقدمة لتقدم بذلك صورة مختلفة للجمهور حول مزايا الطاقة النووية، وتحديداً في ما يخص البيئة، وترى أنّها خطوة جديدة باتجاه أهداف "غوغل" الطموحة في الوصول إلى طاقة خالية من الكربون على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع. لكن من الطبيعي القول إن ما يحرك "غوغل" ومثيلاتها هو أن السوق والتنافس يفرض عليها البحث عن مصادر طاقة بديلة أرخص. ففي عام 2023، تسببت "غوغل" وحدها في إطلاق ملايين الأطنان من ثاني أوكسيد الكربون المضر بالبيئة، ولم يكن هذا حافزاً للبحث عن البدائل، بل إن عقدها مع Kairos Power يمكن أن يخفض فاتورة الوقود بما يقارب 2.6 مليار دولار على المدى البعيد، وربما يكون هو السبب الأساسي وراء التوجه الجديد، وربما تتجه هذه الشركات إلى تغيير الرأي العام حول الطاقة النووية في جهد معاكس للحالات التي عرضها "الطاقة النووية الآن"؛ ففي حين أنتجت منظمات البيئة التي تموّلها شركات النفط أغاني مثل "طاقة" للفنان الأميركي جون هول التي يقول فيها "رجاءً خذوا طاقتكم النووية السامة بعيداً"، ربما نشهد ظهور أغان بمضمون مناقض من إنتاج "غوغل" أو "ميكروسوفت".