يعيش اليوم في القاهرة واحد من أبرز الفنانين السودانيين المهتمين بالفولكلور السوداني، ضمن ما يزيد على أربعة ملايين نازح استقبلتهم مصر. هو الموسيقي دفع الله الحاج علي، مؤسس ومدير فرقة الكاميراتا للفنون الشعبية. حصل الحاج علي على بكالوريوس الموسيقى عام 2001، متخصّصاً بالموسيقى الكلاسيكية وآلة البيانو. أكمل بعدها دراساته العليا في الفولكلور السوداني في جامعة الخرطوم، وحصل على الماجستير في دراسات السينما عام 2016، وهو اليوم يعمل على بحث للدكتوراه عن الخصائص النغمية للآلات الموسيقية السودانية.
أسس الحاج علي مركزاً للموسيقى التقليدية السودانية سنة 1997، ضم أعضاءً من 42 فرقة للفنون الشعبية، توزعت على امتداد السودان، فيما بلغت فروع المركز ثمانية. وعلى مدار سنوات طويلة، جمع الفنان السوداني الآلات الموسيقية الشعبية من أنحاء السودان، موثقاً كل ما يخصها، ومؤسساً لمتحف أودع به كل ما تحصل عليه من آلات.
لكن الحرب عصفت بجهد امتد 28 عاماً، شمل جمع وتصنيف وتصنيع هذه الآلات، إذ تعرّض المتحف للتدمير والنهب مارستهما مليشيا الدعم السريع. في حديث إلى "العربي الجديد"، يقول الحاج علي: "تخيل أن الجنود دمروا ونهبوا مقتنيات المتحف حتى يستعملوا أخشابها في الطبخ، وهو ما نقلته فيديوهات صوروها في أثناء قيامهم بذلك، وكانت مشاهدتها مؤلمة جداً".
من خلال المركز، أطلق الموسيقي السوداني "الكاميراتا"، وهي فرقة للفنون الشعبية، أشاعت غناءها في أنحاء السودان بأكثر من 20 لغة ولهجة محلية، فيما بلغ عدد أعضائها قبل الحرب 40 عازفاً وراقصاً ومغنياً. شاركت الفرقة في 52 مهرجاناً على مستوى العالم، وزارت أكثر من 30 دولة، قدمت خلالها التراث السوداني من ألحان ورقصات وأزياء.
آخر المشاركات الدولية، جاءت في مهرجان الضوء الأخضر (Green Light) في ألمانيا (2010). ضمّت التظاهرة فرقاً من 76 دولة. مع ذلك، استطاعت "الكاميراتا" اقتناص جائزة البلاك هورس باعتبارها أكثر فرق المهرجان تفاعلَ معها الجمهور. انتظمت مشاركات الفرقة أيضاً في المهرجانات المحلية، إضافة إلى المناسبات الرسمية في السودان، وكان آخر مشاركاتها في هذا النطاق مهرجان البركل (2018).
قبل لجوئه إليها، زار الحاج علي وفرقته القاهرة في 2014، حين دُعي إلى الاشتراك في فعالية أقيمت تحت مسمى مشروع النيل، جمعت فنانين وفرقاً من دول حوض النيل. ويرى الحاج علي أنها كانت تجربة في غاية الأهمية، وفرصة لتلاقي ثقافات وفنون دول حوض النيل ينبغي أن تتكرر: "تجمعنا لنقول للعالم: ها نحن فناني دول حوض النيل نغني ونرقص معاً. الفنون يمكن أن تجمعنا كما يجمعنا النيل".
اتخذ الحاج علي قرار مغادرة بلده بعدما وجد نفسه وعائلته تحاصرهم "مليشيا تشتغل بالنهب، وأقل مقاومة يمكن أن تتسبب في مقتلك". نزح في البداية إلى مناطق أخرى في السودان افترض وغيره أنها آمنة. لكنه اكتشف خلاف ذلك بعد انتقاله إليها، حيث تعرض للابتزاز واستغلال بعضهم الأوضاع التي صنعتها الحرب، إلى جانب غلاء الأسعار وعدم توافر الخدمات العلاجية. كل هذا حرّض الفنان السوداني على اتخاذ قراره باللجوء إلى مصر.
من المفترض أن تأشيرة مصر للسودانيين مجانية، لكن الانتظار لأشهر طويلة حتى الحصول عليها، أدى إلى ظهور سماسرة لاستخراج التأشيرة، فبلغت كلفتها ثلاثة آلاف دولار. وعندما تقدم الحاج علي للحصول عليها، اكتشف أن دوره في قائمة المتقدمين لن يتيح له السفر قبل ستة أو سبعة أشهر. يقول الحاج علي: "وجدت نفسي أمام خيار وحيد، السفر إلى مصر من خلال التهريب؛ فانتظاري في بورسودان، المنطقة الأخيرة التي نزحت إليها، إلى أن تصدر التأشيرة، يتطلب مبالغ طائلة، فيما لم يعد لدي أي مصدر للدخل، لذلك اتخذت قراري بدخول مصر من طريق التهريب. استغرقت الرحلة ثمانية أيام، تعرضت خلالها لكل صنوف الجشع والابتزاز".
بمجرد أن وصل الحاج علي إلى مصر، سارع إلى تنظيم أوضاعه بمساعدة مفوضية الأمم المتحدة للاجئين: "إحساس اللجوء مرير، لكن وجدنا معاملة طيبة من إخوتنا في مصر".
يفتقد الحاج علي المساحات الواسعة التي كانت تقام عليها حفلات فرقته في السودان، حيث كانت تقام على مساحات تمتد إلى عدة كيلومترات، يغني خلالها الجميع ويرقصون معاً على أنغام الموسيقى في الهواء الطلق. لكن اليوم لا تتجاوز مساحة أكبر القاعات التي تستضيف حفلات فرقة الكاميراتا 50 متراً مربعاً.
الاستقرار في القاهرة أتاح للحاج علي إعادة تأسيس فرقة الكاميراتا. مع ذلك، لم يكن الأمر سهلاً، فكان عليه أن يصنع كل ما يحتاجه من آلات، لكن ساعده على ذلك توافر المواد المطلوبة في مصر. مشكلة أخرى واجهت فرقة الكاميراتا مع بدء نشاطها في شهر فبراير/شباط الماضي، إذ فُرضت عليها غرامات مالية، فلم يعلم الحاج علي بضرورة الحصول على تصاريح تخوّل فرقته العمل رسمياً، ليتدخّل اتّحادا الفنانين العرب والفنانين السودانيين (اتحاد تأسس في القاهرة لتسهيل النشاط الفني لمواطنيه في بلد اللجوء) لدى نقابة المهن الموسيقية المصرية، واتّخذا الإجراءات اللازمة حتى تمارس الفرقة نشاطها قانونياً.
تقلص عدد "الكاميراتا" إلى 11 موسيقياً وراقصاً، إذ لم ينتقل كل أعضائها إلى مصر، وضمت أعضاءً جدداً من المصريين، تعاون الحاج علي معهم لفترات طويلة سابقاً. وبدعم اتحاد تجمّع الفنانين السودانيين، أقامت فرقة الكاميراتا عدداً من الحفلات خلال هذا العام، فكان أول حفل لها في مقر الجامعة الأميركية، وقدمت حفلاً في المركز الثقافي الإيطالي، إلى جانب عدد من الفعاليات بالسفارات والمسارح الجامعية.
كان آخر ما أقامته "الكاميراتا" فعالية كبيرة حضرها المئات من السودانيين والمصريين في المركز الثقافي الروسي في سبتمبر/أيلول الماضي. استعملت الفرقة في الحفل آلات مثل: الطنبور والنقارة (نوع من الطبول) والبلوناغروه والبانمبو (آلة إيقاع) وآلة الغورميه (آلة وترية).
يرى الفنان السوداني أنه وغيره من الموسيقيين، سيكون لهم دور كبير بعد الحرب، من خلال العمل على زيادة التقارب بين قبائل السودان ومجتمعاته، عبر فنون تسع الجميع، وتشجع على ثقافة التسامح والغفران: "السودان جميل جداً، وأعتقد أننا قادرون على بناء سودان جديد مبنيّ على المحبة ورفض القبلية ونبذ العنف".