فريدا كاهلو... سيرة الفنانة التشكيلية بلوحاتها ومذكراتها

03 يونيو 2024
يتعمّق العمل في لوحات فريدا كاهلو المرتبطة بمرضها (كاتجا أوغرين/ Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- بيكاسو يعبر عن إعجابه بفريدا كاهلو، مؤكدًا على فرادة قدرتها الفنية التي لا يمكن محاكاتها، بينما كاهلو تركت أثرًا بارزًا في الفن بأكثر من 200 لوحة تعكس تجاربها والثقافة المكسيكية.
- فيلم "فريدا" يقدم سردًا سينمائيًا لحياة كاهلو، مستخدمًا الرسوم المتحركة وتقنيات مونتاج لتقديم تجربة غنية تعكس شخصيتها وأعمالها، متجاوزًا القراءات الذكورية لأعمالها.
- حياة كاهلو كانت مليئة بالتحديات الجسدية والعاطفية، استخدمت خلالها الرسم للتعبير عن معاناتها وتجاربها، وتُظهر لوحاتها رحلتها مع الألم والحب، ومنزلها الأزرق يحتفظ بذكراها ويعكس تأثيرها في الفن والثقافة.

"انظُرْ إلى تينك العينين: لا أنتَ ولا أنا قادران على فعل أيّ شيءٍ مثلهما". (بيكاسو يتحدث عن بورتريه من بورتريهات فريدا كاهلو من كتاب "فريدا: سيرة حياة فريدا كاهلو"، تأليف: هايدن هيريرا، ترجمة: علي عبد الأمير صالح، صادر عن دار المدى).
لنفترض أن لدى مخرج ما التفاصيل الآتية عن شخصية واقعية يريد أن يعالجها سينمائياً: لوحاتها التي تقارب الـ200، وماضيها والسياق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لحياتها وللدولة التي تعيش فيها، ومذكراتها المكتوبة بخط يدها مع اسكتشات رُسمت لتوضّح ما تشعر به، وأرشيف فوتوغرافي متكامل لمراحل حياتها كافة، وأحذيتها وملابسها وإكسسواراتها، والمنزل الذي ولِدَتْ وعاشت وماتت فيه، ومذكرات لأصدقاء كتبوا لها وعنها، وكتب ودراسات وأبحاث لا تعد ولا تحصى عن أعمالها الفنية وبكل اللغات... حتى رمادها محفوظٌ في جرّة من العهد ما قبل الكولومبي على هيئة أنثى/آلهة مكسيكية ممتلئة الجسد موضوعة فوق سريرها في منزلها. فما الممكن سينمائياً؟
سؤال المعالجة والفرضية السينمائية حاول كثير من المخرجين الإجابة عنه عند الاقتراب من شخصية الرسامة المكسيكية فريدا كاهلو (1907 - 1954). الجواب بالتأكيد هو المونتاج، عبره استطاعت المونتيرا المكسيكية كارلا غوتيريز ــ ولأول مرة ــ استيلاد شخصية سينمائية كاهلوية، حتى لو بصورة أوليّة. نجحت كارلا في سبر أغوار الشخصية بتقطيعها وتركيبها للمشاهد والشريط الصوتي، والأهم من هذا كله؛ الرسوم المتحركة، أو بالأحرى تحريك الرسوم.

فريدا كاهلو بصوت فرناندا إيتشيفاريا

في فيلم كارلا غوتيريز (Carla Gutierrez) الأخير، "فريدا" (Frida)، تُروى قصة حياة فريدا كاهلو ومحطات حياتها الرئيسية بصوت الممثلة فرناندا إيتشيفاريا، ذي النغمة الموزونة، فلا نسمع سوى ما كَتَبت فريدا في مذكراتها. قدمت غوتيريز سرداً بصرياً جديداً للأحداث؛ الرسومات تحركت فجأة، بأجزاء بسيطة منها، لكنها محددة بدقة ومستلَّة من القاموس البصري للعناصر التي تستخدمها كاهلو في لوحاتها، كالشرائط والقرود والببغاوات والدماء والشمس والقمر وعناصر ثقافات الأميركيتين (قبل رحلات كولومبس عام 1492) والدم والجذور وأوراق الأشجار والشرائط الملونة والفولاذ والأجنة.
عبر هذه العناصر، قفزت غوتيريز، بالتعاون مع المديرة الإبداعية للرسوم المتحركة صوفيا كازاريس، بخفة بين اللوحات الأشهر التي رسمته فريدا كاهلو ومع السرد الروائي المتماسك للعمل والموسيقى المكسيكية المغرقة بالمحلية، يصل المشاهد إلى جوهر الأسطورة/الأيقونة التي تحولت إلى شخصية سينمائية.
أكثر من ثلث لوحات فريدا كاهلو كانت بورتريه ذاتياً. كانت تتعامل مع القماش كمرآة. على هدى أعمالها، صُمّم الفيلم أيضاً كبورتريه ذاتي بإطارٍ وثائقي. تمر الصور الفوتوغرافية أمامنا، تتوقف قليلاً ليُصبغ أجزاء منها، في الغالب هذه الأجزاء تكوّن فريدا أو ثوب التيهوانا التقليدي الشهير الذي ترتديه. تُشبَّع الإطارات بالألوان المكسيكية الحيوية المستخدمة بكثافة في لوحات فريدا، ليتحول معها الأرشيف الفوتوغرافي والواقع المصوَّر إلى جزء من شخصية فريدا المميزة بحاجبها السميك الذي يقطع جبينها.
يتعمق الفيلم في لوحاتها الأكثر شهرة، كلوحة "العمود المكسور" و"الفريدتان"، ولوحتها السوريالية الشهيرة "ما أعطتني المياه". لا يتضمن الفيلم أي مقابلة مع خبير أو ناقد أو فنان، واللوحات تُقدَّم بصرياً بالتزامن مع تعليقات فريدا الذكية واللاذعة والمحملة بحس فكاهة يتعالى على الموت نفسه. لم يقع الفيلم في فخ القراءة الذكورية لأعمال كاهلو كما وقع كثير من الأعمال السابقة، بل تجاوزها من دون أن يُغفل تأثرها بأسلوب وأفعال زوجها الرسام المكسيكي دييغو ريفيرا (1886 - 1957) فقُدِّم هذا الوثائقي بلسان النساء اللواتي أشرفن عليه كبيان استقلال فريدا.
شخصية فريدا في الحقيقة مناقضة للصورة التي حاولت أن تقدمها للآخرين. صورة تحوي من القوة وحس الفكاهة والثقة والالتزام السياسي ما لا يمكن لشخصية عادية أن تقدمه. أما في الواقع، فهي شخصية هاربة من روايات ماركيز وعذاباتها، وتمثّل رسوماتها جراحة نفسية لمعاناتها. رَسَمت نفسها متصدعة ونازفة ومحطمة. لوحاتها الصغيرة تتناسب مع حميمية موضوعها وعدم قدرتها على الحركة والتنقل. تَرسُم في معظم الأحيان وهي مثبتة في قالب جص ممل كالجحيم.

سيرة معقدة

في عمر الخامسة، أصيبت كاهلو بشلل الأطفال، فأصبحت ساقها اليمنى شبه متيبّسة، وقُطِعَت في سنوات حياتها الأخيرة. قالت إنها ولدت عام 1910 وهذا غير صحيح. في الحقيقة، هي أرادت أن توافق ولادتها مع ولادة المكسيك الحديثة بسبب الثورة التي حدثت عام 1910. كانت تريد دراسة الطب، لكن ولسوء حظها، وهي في صباها، وتحديداً في 17 سبتمبر/أيلول 1925، في اللحظة التي اجتمعت فيها المكسيك القديمة مع تلك الحديثة في وسط مكسيكو سيتي، اصطدم مترو كهربائي حديث بحافلة خشبية مترهلة كانت تقل فريدا وحبيبها. عجنَ المترو الشاحنة، ودخل أحد أسياخ درابزون الحافلة من الجهة اليسرى في بطن فريدا وخرج من فرجها. كُسر عدد كبير من أضلاعها وحوضها وعمودها الفقري وقدمها اليمنى في ثلاثة مواضع. صوت صراخها لحظة سحب سيخ الحديد من جسدها كان أعلى من صوت سيارة الإسعاف. تحوّل بعدها الحديد والفولاذ إلى عنصرين أساسيين في قاموسها البصري. في هذه الحادثة، وُلدت الرسامة المعذبة.

أجرت فريدا خلال حياتها أكثر من 32 عملية جراحية. خلال كل واحدة من هذه العمليات كانت فريدا تعيد ولادة ذاتها. التعافي والانتكاس عملية أبدية في حياة الفنانة المتصدعة. جسدها كان العثرة في وجه أحلامها. مع إحساسٍ دائم بالألم في عمودها الفقري (لوحة العمود المكسور)، وإجهاضاتها الكثيرة وفشلها في الولادة والأمومة، تطورت لوحاتها حتى وصلت إلى مرحلة دمجت نفسها مع جذور الأرض المكسيكية وفاكهتها المقطوعة إلى نصفين والأوراق الصفراء شبه الميتة. هذه الأصالة الضاربة في الشخصية توظفت في مشروعها بسبب المستوى العالي من الثقافة والاطلاع على التطورات الثقافية في العالم والانتماء السياسي الصارم للحزب الشيوعي.
كان منزلها الأزرق في كوايواكان قبلة الفنانين والسياسيين من كل العالم. لم يكن بعيداً عن حضارة الأزتيك والمايا، وكان عطوفاً على ابنته المعذبة؛ فاحتضن طفولتها الشقية وآلامها بسبب الحادثة، وبسبب خيانات زوجها المتكررة. فارقت الحياة في ذلك البيت الذي أصبح، لاحقاً، معرضاً للوحاتها ومقتنياتها والأحزمة الفولاذية التي علقت فيها لسنين طويلة، وقدمها اليمنى الاصطناعية.
نجد فريدا في اللوفر، وعلى علَّاقات المفاتيح وصور أكواب القهوة. رسامة فنتازية، شيوعية متحمسة، بوهيمية سوريالية، عشيقة لليون تروتسكي وكثير من الشخصيات المرموقة. كانت تستمتع بعلاقات مثلية عابرة خاضتها بحماسة. رغبتها المطلقة في الإنجاب دفعتها للتعبير بحسرة شديدة. كانت مدمنة على العقاقير المخدرة، ومدخنة شرهة، زاوجت بين الأفكار الاشتراكية والرؤى الدينية والأساطير والتراث المكسيكي ورموز الأسطورة في لوحاتها. كان آخر ظهور لها خلال التظاهرة الاجتماعية التي دعا إليها الحزب الشيوعي المكسيكي ضد التدخل الأميركي في غواتيمالا. قالت: "إن نفسي هي الموتيف الذي أعرفه جيداً"؛ فكانت تقدم بورتريهاتها للأصدقاء الذين ساندوها في آلامها كعربون شكر وكجزء من ذاتها.

المساهمون