"أطفال ستراسيرا"، تلك هي العبارة التي تصدرت عناوين الصحف والمجلات في الأرجنتين عام 1983، وذلك حين تشكل فريق الادعاء بقيادة المدعي العام خوليو ستراسيرا، ضد عدد من الضباط المتورطين في جرائم إبادات جماعية أثناء حكم دكتاتورية اليمين من عام 1976 إلى 1983.
لم تكن العبارة بدافع السخرية والاستهزاء، بل كانت توصيفًا عادلًا للفريق المستحدث، إذ امتنع حينها المحامون الأكفاء عن الانخراط في القضية الإشكالية، وحلت مكانهم مجموعة من المبتدئين وقليلي الخبرة لخوض واحدة من أكبر المحاكمات وأعنفها في تاريخ الأرجنتين المعاصر، بأكثر من 700 قضية تعرض انتهاكات الدكتاتورية بشتى أشكالها.
يعيدنا المخرج سانتياغو ميتري إلى تلك الحادثة الشهيرة من تاريخ الأرجنتين، مع فيلمه الجديد Argentina, 1985، الذي عُرض لأول مرة في مهرجان البندقية السينمائي. ويمضي بنا الفيلم مع دراما تاريخية تدور معظم أحداثها في محكمة مدنية، تعد الأولى في التاريخ التي تقدم عدالة مدنية تدين دكتاتورية عسكرية. ففي عام 1976، أُعلن عن بدء حكم الأركان العامة للقوات المسلحة بعد الإطاحة بحكومة إيزابيل بيرون، وتعيين خورخي رافائيل فيديلا رئيسًا لواحدة من أكثر الدكتاتوريات العسكرية دموية في التاريخ.
يقود القصة، والادعاء، خوليو ستراسيرا (ريكاردو دارين)، مصطحبًا إيانا بجولة تقارب الساعتين ونصف ساعة خلال الفترة الانتقالية غير المستقرة لحكم الديمقراطية في الأرجنتين. فمع أن المحاكمة جارية، إلا أن القادة العسكريين ما زالوا على علاقة وثيقة بقوات الدفاع الأخرى في البلاد، مستغلين شاراتهم للمطالبة بمحاكمة عسكرية، لا مدنية، حيث سيُحكم عليهم من قبل أبناء جلدتهم ومرؤوسيهم. لكن فريق الادعاء العام، مدعومًا بالرئيس الجديد حينها، راؤول ألفونسين، ينجح في تسمير أقدامهم في قاعة المحاكمة المدنية، كاشفًا عن جرائمهم الدموية في قتل وملاحقة وترهيب معارضي الحكم.
يجمع ميتري العناصر القضائية والتاريخية عبر الفيلم، واضعًا العديد من الشهادات المؤلمة عن ضحايا التعذيب، أبشعها تعود إلى امرأة حامل، عذبها عناصر الأمن أثناء حملها، وعصبوا عينيها وقيدوا يديها خلال إنجابها لرضيعها في المقعد الخلفي لشاحنة، تاركين طفلها يتدلى على الأرض الباردة، لا يربطه بأمه سوى الحبل السري الممتد بينهما. ليست تلك الشهادة المروعة إلا واحدة من بين أخرى كثيرة يستمدها ميتري من نصوص المحكمة، ومعظمها يروي كيف عذب المعتقلين وأخفوا وقتلوا سرًا من دون إعلام ذويهم عن مصائرهم المريرة.
يحفر ستراسيرا طريقه وسط مناخ سياسي لا يزال معظمه وفيًا للحكم القديم، فيُجابه بالتهديد بالقتل من جهات عدة، وبعضها لا يخجل من الإعلان عن نفسه كالقوات البحرية الأرجنتينية، ويتعامل في ذات الوقت مع تشكيكات المحيطين به من أقربائه وأصدقائه الذين يعتبرون أن الادعاء على سلطة الجيش ليس إلا خيانة للحكم وتنفيذًا للمؤامرة عليه، كما يتعرض لانتقادات عديدة من قبل المعارضين الذين أطلقوا أحكامهم منذ زمن بعيد، واعتبروه مواليًا صامتًا للنظام الدموي السابق، إضافة إلى الكثير من صراعات الأجيال والاختلافات السياسية التي يعبر عنها مساعد ستراسيرا اليساري المتطرف لويس مورينو أوكامبو (بيتر لانزاني). أما الخصوم الحقيقيون، فهم الضباط المتعنتون أنفسهم ومن يدافع عنهم من قادة يخافون أن تمتد المحاكمات لتشملهم وتكشف عن خبايهم الشنيعة.
ومع أنه يقدم مشهدًا قانونيًا مفصلًا، إلا أن ميتري لا يصنع دراما قانونية كتلك التي يتنظر مشاهدها معرفة نتيجة المحكمة وما إذا انتصر "الجانب الخير" من القضية فحسب، بل يبحث بشكل خاص عن معنى "العدالة الانتقالية" ويتتبع جذورها في القانون والسياسة والعلوم الاجتماعيّة، ملقيَا الضوء على عملية الانتقال من حكم سلطوي عنيف إلى آخر ديمقراطي، وما تتطلبه تلك السيرورة من إصلاح دستوري وتغيير في القيادات والعقول وتبني طرق تفكير جديدة بغية معالجة الماضي الأليم لا تخطيه بعجز أو إنكار.
ومن المفهوم أن يطرح ميتري فيلمًا عن الديمقراطية في أوقات كهذه، تبدو فيها تلك الأخيرة أبعد من أي وقت مضى، خاصة بعد الاحتجاجات الكبرى التي اشتعلت في شتى أنحاء العالم خلال العقد الأخير، وانتهى معظمها إلى نتائج أسوأ مما بدأت عليه. أما "العدل"، بمفهومه الأوسع، فيوضح الفيلم أنه ممكن طالما أنه لا يسعى وراء شخص واحد فقط، بل يهدف إلى تفكيك المنظومة بأسرها، محاولًا فهم أسباب جنوحها إلى العنف والقمع. أمر يؤكد عليه ستراسيرا بتفنيده تاريخ العنف المؤسساتي في دولة الأرجنتين عبر خطبته النهائية التي اختتمت بجملة راسخة في ذهن كل من سمعها: "لن تتكرر أبدًا".
لا يقدم الفيلم أسطورة تمجد البطولات الزائفة، كتلك التي يمكن أن نراها في فيلم هوليوودي يتحدث عن إحدى الحروب التي شنتها الولايات المتحدة على دولة عالم ثالث، فستراسيرا شخص عادي، ما من شيء بطولي حوله. نراه يعترف لصديقه المقرب بأن التاريخ لا يصنعه أمثاله، وهو ما يصوره الفيلم بالفعل، حين يؤكد أن مجهود شخص واحد فقط لا يفلح في إنقاذ الدولة بأسرها، مرجعًا سبب نجاح تجربة الأرجنتين الاستثنائية إلى تحالف السلطات القضائية والتنفيذية والرئاسية لتنفيذ المحاكمة، فضلًا عن وجود أشخاص صح في الوقت والمكان الصحيحين أيضًا، ومنح سلطة القضاء حرية التحري والتثبت من الادعاءات، من دون حصانات سياسية تردع الحقيقة.
أما الشعب، فيحضر عبر مواجهات ستراسيرا مع من حوله واحتكاكه المستمر مع قضاياهم ومشاكلهم، فيصوغ ستراسيرا خطبته في مقهى شعبي، بين رواده وعامليه، ليترك كل منهم بصمته الخاصة على النص الأخير، ويبدي ابن ستراسيرا رأيه بالخطبة التي ستهز المحكمة المدنية أيضًا، مقدمًا اقتراحات تسهل فهمها من قبل الجميع، حتى أن ستراسيرا يؤدي منتجه النهائي على خشبة المسرح كمونولوغ درامي يخرجه صديقه المسرحي الذي يحرص على شطب الجمل المتخشبة من الخطاب، واستبدالها بعبارات حية وواقعية.
يتكئ فيلم "أرجنتينا، 1985"، على خليط منسجم بين العاطفة والعقل اللذين قلما يعملا معاً في مضامير السياسة. ولعل المشهد بين المدعي العام وصديقه العجوز وهما يقشران فاكهة الكارمنتينا (الكليمانتين)، بينما يناقشا مستقبل الدولة المتزعزع، يعد أوضح الأمثلة على تلك الخاصية المميزة للفيلم.
يؤكد ميتري أيضًا أن السياسة فن، يتطلب أدوات إقناع خاصة، أهمها برز آنذاك مع التكنولوجيا ووسائل الإعلام الحديثة، التي سمحت للرأي العام بالتشكل إزاء تلك القضية، وأكسبتها عددًا من المناصرين الجدد، الذين لم يكونوا على دراية بجرائم النظام السابق، واكتفوا بموالاته لمجرد أن بعض ضباطه يرتاد كنيستهم.
تناولت العديد من الأعمال المعاصرة دكتاتورية الأرجنتين بأفلام ولوحات تصور الوحشية والقمع اللذين مارستهما السلطة العسكرية لسنوات عدة، من دون رادع، لكن فيلم Argentina, 1985، ينجح في تقديم نموذج لا يقف عند إعادة تمثيل الكابوس فحسب، بل يخبرنا كيف خرجنا منه أيضًا، ويترك الباب خلفه مواربًا لأولئك الذين يتساءلون عما إذا كانوا محظوظين بشكل كاف حتى يشهدوا على تحقق العدالة مرة أخرى خلال سنوات حياتهم.