ينطلق هونغ سانغ سو، في أفلامه، من خاصيتين أساسيتين: الأولى تنعكس في أسلوبه السينمائي، الذي يعتمد على البساطة وعدم التعقيد، والبحث في التفاصيل الصغيرة، التي يُشكّل من خلالها الكُلّ، وهذا يجعله يخلق معالجة إخراجية خاصة به وحده، فيتمكّن المُشاهد الحصيف من أنْ يكتشف، بسهولة، اسم المخرج، بمجرّد مُشاهدة فيلمٍ له من دون توقيعه. الثانية تتمثّل بالثيمة التي يختارها، التي تتعلّق غالباً بمشاكل المرأة المثقّفة، ابنة المدينة والفضاءات الحضرية، انطلاقاً من أحزانها وإفرازات مهنتها (مهنة فنية، أساساً)، في مواجهة إرهاصات الحضارة وعيوبها، ودورها الأساسي في خنق المرأة، إذْ يُتيح لها هونغ سانغ سو الكلامَ والفعلَ، وللتعبير عمّا يُقلقها، أو يُشكّل عثرة في قلبها، فتطرح الأسئلة الوجودية التي تحاصرها وتضغط عليها.
هكذا يتحوّل الفيلم إلى مادة سوسيولوجية مهمّة عن المرأة المثقّفة في كوريا الجنوبية، ونافذة مُشرّعة على العالم، ليرى عبرها كوابيسها وأحلامها وهمومها ومعاناتها التي لا تنتهي. وظّف هونغ سانغ سو هذه المقاربة في جديده "فيلم الروائية" (2022)، الفائز بالجائزة الكبرى للجنة تحكيم المسابقة الرسمية، في الدورة الـ 72 (10 ـ 20 فبراير/شباط 2022) لـ"مهرجان برلين السينمائي". بفضلها، بات يحضر كلّ عامٍ تقريباً في مهرجانات سينمائية كبرى، ويحافظ على مسار نجاحه، انطلاقاً من حفاظه على معطياته التي يؤمن بجدواها الفنية والإنسانية.
مُجدّداً، اختار المرأة المثقفة بطلة رئيسية في جديده ("الروائية"، بحسب عنوانه الفرنسي)، لينقل عبرها (كتب السيناريو أيضاً) وجهة نظرها في مسائل ثقافية مهمة، كحبسة الكتابة، ومفهومها وجدواها ورسائلها وقيمتها في المجتمع، مع طرح أسئلة لا تقلّ أهمية، عن تعامل المرأة/الكاتبة بالضرورة مع هذه المعطيات، التي تحفر في أعماقها كمعطيات آنية جديدة، أو تصاحبها منذ البدء. استعار هونغ سانغ سو عينيها ليرى بهما الأشياء المحيطة بها، ويُفسّر عن طريقها العلاقات الاجتماعية، كالصداقة والحبّ، والإحساس بتقدّم العمر، ومفهوم العزلة، وغيرها من معطيات تحفر عميقاً في قلب هذه المرأة المثقفة. كما مَدّ جسراً ليعبر المُشاهد عليه، ويعاين تلك العتمة والفوضى والحزن والخوف من الآتي، والتحسّر على الماضي، وكلّها معطيات نفسية موظّفة بسلاسة ومنطق، لفهم وتكوين معطى شامل عمّا يدور في ذهن المرأة الروائية، في لحظة عمرية مهمة من حياتها، من أشدّ المحطات أهمية، خاصة عندما تجد نفسها محاصرة بأسئلة فكرية عن جدوى الكتابة، أو عندما تقف أمام طريقين رئيسيتين: مواصلة كتابة أشياء لا تؤمن بها، فتُكرّر نفسها؛ أو التوقّف عن الكتابة، وتصدق مع ضميرها. خياران صعبان، عليها اختيار أحدهما، مهما بلغت قسوته.
الروائية المُكرّسة جون هي (لي ـ هيو يونغ) قرّرت زيارة صديقتها القديمة (سيو يونغ هوا)، المتوقّفة عن الكتابة، قبل تأسيسها مكتبةً، تضمّ مقهى ومنتدى ثقافياً صغيراً، أبعدتها عن صخب مدينة سيول، وعن الأضواء. بعد الاطمئنان عليها، قرّرت مُشاهدة معالم المدينة من أحد أبراجها. هناك، التقت صدفة المخرج السينمائي هيو جين (هاي هيو كوون)، الذي خذلها سابقاً في مشروع سينمائي. كلامٌ سريع بينهما، واعتذار منه لها عن عدم تنفيذ المشروع بسبب المنتج، ثم يُقرّران الذهاب إلى متنزهٍ شاهدته بكاميرتها الصغيرة من أعلى البرج، للتنزّه فيه. هناك، التقيا الممثلة المشهورة جيل سو (كيم مين هي)، التي اختارت العزلة والابتعاد عن صخب الشهرة وفوضاها، مع مشاركة في أفلامٍ مستقلة وصغيرة. في كلامه معها، يتحسّر المخرج هيو جين على ضياع موهبتها، التي يجب أنْ تُستَغلّ، قائلاً إنّها موهبة ضاعت في النسيان، ومتعجباً من المخرجين الذين لم يستغلوها، لتقطع الروائيةُ كلامَه، وتوقفه عند حدّه، بعد أنْ أفهمته بأنّ هذه خيارات شخصية، يجب ألاّ يتدخّل فيها أي شخص، ويجب أنْ يحترمها الجميع، فهي وجدت راحتها في هذا الأمر. شعر المخرج، الذي كان برفقة زوجته، بالإحراج، فاعتذر منهما وانصرف مع امرأته. عبّرت الروائية عن إعجابها الشديد بالممثلة، وعرضت العمل معها في مشروع سينمائي حلمت به طويلاً: فيلمٌ قصير، تكتب قصّته. هذا معطى أساسي، انعكس في "فيلم الروائية".
يحتفي الفيلم بالعزلة ويقدّسها، ويعتبرها أسلوب حياة يجب احترامه كخيارٍ مهمّ لصاحبه. هذا حدث مع الكاتبة، صاحبة المكتبة البعيدة عن الصخب، كي تعيش كما تريد، ولا تبقى أسيرة نمطٍ مُعيّن، تفرضه الشهرة والمجتمع. إنّه الخيار نفسه للممثلة جيل سو، المبتعدة بدورها عن بريق الأضواء، بحثاً عن أسلوب عيشٍ بسلام، أي أنْ تتمشّى وتتنزّه وتعيش وفقاً لطريقتها الخاصة.
لتقديم هذه القيمة، لم يحد هونغ سانغ سو عن أسلوبه السينمائي المعتاد، معتمداً على مَشاهد طويلة، ونقاشات مُحمّلة بأسئلة مختلفة. كما أنّه بلغ أفكاره المتعدّدة في بعض الثرثرات، التي ولّد منها قيماً فكرية، اعتماداً على بساطة الطرح، والسعي إلى فكرته بلا تعقيد. ساعد في هذا تعاونه مع ممثلين، تعامل معهم في أفلامٍ عدّة له، فبات يعرف إمكانية كلّ واحد منهم، والمدى الذي يُمكن أنْ يصل إليه، والميدان الذي يبرع فيه. حتّى أنّ القصص التي يختارها، وتكون عادية في العادة، يبرع دائماً في تحويلها إلى حياة متكاملة.
في "فيلم الروائية"، راهن هونغ سانغ سو على الأسود والأبيض، وهذا خيار بصري صعب، يُعتبر مغامرة في ظلّ اعتياد المُشاهد على الألوان. خيار نَشَّط خيال المُشاهد، وشحن تأويلاته البصرية، مع توجيهه إلى الخيار السمعي الصادر من حوار الشخصيات ونقاشاتها. لم تكن المرّة الأولى التي يعتمد فيها هونغ سانغ سو على الأسود والأبيض، كـ"اليوم التالي" (2017)، كأنّه يبحث دائماً عن صيغة أشياء، يريد إيصالها عبرهما.