- يُظهر الوصف العالم كمكان يفتقر إلى الخيارات، حيث الحياة تُصبح معركة مستمرة للبقاء والتعبير عن الذات يُعتبر خيانة، مما يخلق حالة من الانقسام والعنف.
- يُطرح سؤال حول قيمة التعبير عن الذات في ظل الظروف القاسية، مع بصيص من الأمل في إمكانية التأثير أو التغيير، مشيرًا إلى قوة الفن والسينما في التعبير عن الواقع ومحاولة فهمه أو تصويره.
مسائل كثيرة، تحصل يومياً في العالم، مُقلِقةٌ وبشعةٌ ومؤذية. كأنّ نمطَ الحياة، التي تعيشها البشرية منذ سنين مديدة، ينتهي. كأنّ هناك حياةً جديدة تتكوّن في بؤرة ما، والحاصل راهناً يعكس احتضاراً للقديم، ومخاضُ الجديد قاسٍ ومؤلم. عيشُ مرحلة كهذه "فيلمُ واقعٍ"، أخطر بكثير ممّا يُعرف بـ"تلفزيون الواقع". فيلمٌ يعيشه كثيرون وكثيرات، من دون قراءة السيناريو، فلا حاجة إلى ذلك، لأنّ النصّ السينمائي عيشٌ يوميّ، ومن دون معرفة دور كلّ واحدٍ، أو الشخصية التي يُفترض بكلّ أحدٍ تأديتها أمام كاميرا الموت، متنوّع الأشكال. فيلمٌ يستحيل على ناقدٍ، متمرّساً أمْ لا، أنْ يكتب حرفاً عنّه، لشدّة البؤس والخراب والقهر، التي تعتمل كلّها في تفاصيله. ولأنّ الناقد، كأيّ أحدٍ آخر، غير مُشاهِدٍ إياه فهو يعيشه.
الفيلم هذا سيكون أوّل إنجاز سينمائيّ، في تاريخ الفنّ السابع، يُتيح لمن يُشاهده ـ يعيشه أنْ يشمّ رائحة الموت المنبعثة منه، وأنْ يتنشّق عفنها حتى النهاية (النهاية؟ نعم. إنّها النهاية، أو معالمها الواضحة على الأقلّ. نهاية كلّ شيءٍ، ونهاية كلّ أحدٍ مفردٍ ـ فردٍ)، وأنْ يلمس حالتها، وأنْ يغرق في صُورهما (الرائحة والموت معاً)، وأنْ يتأذّى من كادراتهما وألوانهما المائلة إلى أسودٍ وأبيض، يختزلان بشاعة الحاصل، والحاصل أنْ لا خيار ثالثاً، فإمّا "معنا" أو "ضدنا" وفقط، والتزام أيّ طرفٍ منهما مُقلق وبشع ومؤذٍ.
لذا، ينتاب الناقدَ شعورٌ بلا جدوى أيّ شيء. كلّ كلامٍ يُقال أو يُكتب غير مُفيد. كلّ تعبير عن إحساس أو رغبة أو بوح مُصابٌ بعطب الفرض: إمّا "معنا" أو "ضدنا". كلّ خروجٍ، مشغول بوعي ومعرفة في سنين مديدة سابقة، من جماعة (قبيلة، طائفة، مذهب، عائلة)، ملعونٌ صاحبه ـ صاحبته ومُطارَدان، فـ"الرواية الرسمية" قاتلة بطغيانها، وكلّ خروج كهذا منذورٌ للموت.
لا اهتمام مباشراً بمخرج ـ مخرجة هذا الفيلم، أو بأيّ عامل وعاملة فيه. الأسماء كثيرة. للمتورّطين والمتورّطات في صُنع النهاية أسماء معروفة، لكنْ غير مهمّ البتّة ذكرها، فحضورها في يوميات المرء قاتلٌ وقذر. لا أحد يُمكن وصفه بـ"قائد تاريخي" أو "قائدة تاريخية". صانعو تغييرات إيجابية لمصلحة البشرية وصانعاتها غائبون كلّياً. القتلة أقوى، وهؤلاء غير محتاجين إلى مُصوّر ومونتير ومهندس صوت، ولا إلى مُصمّم أزياء ومُنفِّذٍ لها، ولا إلى أيّ موسيقى تصويرية، ولا إلى أيّ فعلٍ مهنيّ آخر في سينما، لا يزال بعضها الأجمل (خارج الحاصل، رغم أنّ هذا البعض منبثقٌ من حاصلٍ، اليوم وأمس) ينبض بجماليات تقول شيئاً عن اختلافٍ مطلوب. أمّا الحاصل اليوم فمُتفلّت من كلّ مهنة ـ قيد، وكثيرون وكثيرات يصنعونه، أو يشاركون في صُنعه، مباشرةً أو صمتاً، أو قتلاً وتعنيفاً وأذيةً.
لكنْ، أيكتفي فردٌ ـ متأذٍ من احتضار عالمٍ ومخاض آخر، وبشاعة عالمٍ وغموض آخر ـ بتفرّج ملعون، أمْ أنّ قولاً، ولو أنّ صوته باهتٌ وغير مؤثّر إيجابياً، مُفيدٌ؟ التفرّج غير مريح، والأذية منبثقةٌ أيضاً من عجزٍ عن قول، يُدرك من يقوله أنْ لا فائدة ولا تأثير ولا شيء. العالم مستمرّ في الانهيار، وانهياره تعنيفٌ قاسٍ، واكتمال النهاية غير قريب، وبلوغهما (الاكتمال والنهاية) مُدمِّرٌ.
هذا دافعٌ إلى تذكّرٍ مُقتضبٍ لأفلامٍ تروي خراب العالم، وتُصوّره. يحضر فوراً "كتاب إيلاي" (2010) لألبرت وآلن هيوز. العالم (أي الولايات المتحدّة الأميركية بالمفهوم الهوليوودي) خرابٌ، والبحث عن كتابٍ (إنجيل بنسخةٍ محدّدة ونادرة) سببٌ لنزاع مرير بين إيلاي (دنزل واشنطن) وكارْنِغي (غاري أولدمان). المَقتَل منبثقٌ من اللون الرمادي (والرماد كثيرٌ)، الطاغي في رحلة خلاص موعود لإيلاي. ركامٌ وغبار وعَفَن وغموض وبشاعة، ثم يظهر زوجان يأكلان لحماً بشرياً. خلاصُ إيلاي وكتابه حاصلان. لكنّ شيئاً ما لا يزال غامضاً، والمُقبل غير واضحٍ. أمْ أنّ هذا إسقاطٌ نقديّ على نهاية متخيّلة لفيلمٍ يقول ما يقوله، بصُوَر وأداء ومعاينة؟
المَقْتَل أنّ هذا كلّه حاصلٌ الآن، وإنْ منْ دون لون رماديّ مع أنّ الرماد أكثر. المَقْتل أنّ السينما غير متمكّنةٍ، هذه المرّة، من أنْ تسبق الحياة، رغم أنّ أفلاماً كثيرة تقول الحاصل اليوم، أو ما يُشبهه، قبل وقتٍ، وما من منتبهٍ، فالطغاة غير مُشاهِدين ـ مُشاهِدات، والسينما بالنسبة إليهم ـ إليهنّ فنٌّ يقول ما يريدون، وإلاّ فإنّه يُرجَم حتى الموت.