عُرف عن المغني وعازف الترومبيت الأميركي، لويس أرمسترونغ، أنه كان يسجل محادثاته الشخصية لتوثيق حياته ومغامراته وأفكاره. كذلك فإنه كان متحمساً لتدوين سيرته الذاتيّة، ليخبر "العالم" عن نشأته وتجربته الموسيقيّة والتاريخ الذي شهده. أي يمكن القول إنه أراد أن يكون هو المتحكم بما يقال عنه وما يكتب عنه. وفعلاً، هذا ما فعله؛ إذ نشر عام 1936، حين كان في الـ 36 من عمره، كتابه الأول وعنوانه Swing That Music. وعام 1954، نشر كتاباً ثانياً عنوانه "ستاتشمو: حياتي في نيو أورلينز"، وكلاهما يتبنى شكل السيرة الذاتيّة.
شكك كثير من النقاد (وبعضهم إلى الآن يتخذ الموقف نفسه) في آن أرمسترونغ هو "مؤلف" هذين الكتابين.
ولا نقصد أن هناك خطأً أو انتحالاً أو كذباً لم يكن أرمسترونغ يعرفه، بل هناك ميل إلى أنه لم يكن هو فعلياً من كتب بالورقة والقلم، وقام بفعل "التأليف". يقترح الافتراض أن هناك مجهولاً، أو مجاهيل، أملى عليهم أرمسترونغ ما يريد، أو استمعوا إلى ما يمتلكه من تسجيلات، ثم قامـوا بالكتابة.
وكأن هذه الكتب سير عن أرمسترونغ كُتبت له، وقام هو بنشرها، خصوصاً أن هناك ملاحظات على الأسلوب الذي يختلف في الكتابين، فضلاً عن أن "الصوت"، بالمعنى الأدبي، لا يشبه صوت أرمسترونغ، حسب زعم البعض.
صدر لأسطورة الجاز، عام 1999، كتاب يحمل عنوان "لويس أرمسترونغ: بكلماته الخاصة"، ويحوي نصوصاً من مختلف فترات حياته، وتوثيقاً لزيجاته، وسيراً متعددة له تغطي مراحل مختلفة من حياته. فهناك 28 صفحة تحت عنوان "حكاية أرمسترونغ"، تتحدث عن حياته قبل انتقاله إلى شيكاغو، ونصوص أخرى كتبها نهاية عمره. لكننا هنا لا نحاول أن نقدم مراجعة للكتاب، بل الإشارة إلى الخصائص الأسلوبيّة المرتبطة بنصوصه، وما هي القوى التي تحكمت بشكل كتابته ونتاجه النصّي.
يختلف هذا الكتاب عمّا سبقه بأن له جامعاً ومحرّراً ومدققاً واضح الاسم والمهنة؛ إذ أشرف عالم الموسيقى، توماس بروذيرز عليه، ما ينفي الشكوك السابقة في ما يخص هذا الكتاب على الأقل. فما نقرأه مكتوب من قبل أرمسترونغ نفسه الذي يعتبر بشكل عام غزير الإنتاج؛ فله مقالات، ورسائل، والكثير من النصوص التي تجعله يتفوق على الكثير من الموسيقيين ومحاولاتهم الأدبيّة، خصوصاً أن أرمسترونغ كان يرى في الكتابة هوياته، ورافقته آلته الكاتبة طوال حياته.
لا بد من أن نشير إلى أن "اكتمال" سيرة أرمسترونغ لم يتعلق فقط بجهده الكتابي. العديد من المقاطع في الكتاب كان من المفترض أن تنشر سابقاً، لكن، بسبب تعاطي عازف الترومبيت للماريجوانا، لم تظهر في الكتب السابقة، خوفاً من تكرار إدانته بحيازتها وحبسه كما حصل عام 1930. اللافت أيضاً، سلوك أرمسترونغ تجاه الكتابة، واعتبارها جزءاً من حياته، إذ كان يكتب في الكواليس، وبعد الحفلات، وفي كل فرصة سانحة، سواء بتدوين ما حصل معه، أو بردّه على رسالة تلقاها من معجب ما. كما كان يحمل دوماً معه معجم مترادفات، ومعجماً تقليدياً، يستخدمهما كثيراً عند كتابة الرسائل. وقال مرةً، في لقاء إذاعي أجري معه في الأربعينيات، أنه يكتب الكتب كي يفهمها هو أيضاً. نتلمس في هذا التصريح نوعاً من تواضع الطالب؛ إذ يذكر أنه لم يتعلم جيداً في المدرسة، وإلى الآن ما زال يتعلم، بل ويصرّ على أنه "كتب كل كلمة في كتبه"، ولم يساعده أو يكتب، نيابةً عنه، أحد.
يمتلك أرمسترونغ لغتين، لغة Jive المتحذلقة والساخرة والمختصرة والمشفرة التي تعكس الثقافة السوداء، والإنكليزية الصحيحة المفهومة للجميع، والموجودة في الكتب، أي لغة المعاجم الرسميّة التي يمكن وصفها بـ"البيضاء". هذا التعدد اللغوي أكسبه قدرة على التلاعب بالكلمات ومعانيها وتبديلها، بل إنه يسخر من نفسه في إحدى الرسائل في الكتاب لاستخدامه كلمة "كبيرة" التي تنتمي إلى الإنكليزية القويمة. ويشير أحياناً إلى مصادر تعليمه الذي لم يكن فقط من المعاجم، فعمله في طفولته ضمن عربات الفحم مع أبناء الأسرة اليهوديّة التي سكن عندها، كان ذا أثر على لغته، إذ يقول إنه كان نشاطاً تعليمياً؛ فأفراد الأسرة كانوا يصحّحون بعض الكلمات التي يقولها حول طاولة العشاء، ما جعله متحمّساً للتعلم، وراغباً في أن يتعرف إلى "اللغة القويمة"، تلك التي تعكس أيضاً ثقافةً وطبقةً اجتماعيةً أعلى، من دون أن يهدف إلى نسيان أو تجاهل لغته الخاصة، الملوّنة.
نلاحظ أيضاً غزارة علامات الترقيم في الكتاب واستخداماتها غير التقليديّة.
وهذا ما يشير إليه بروذيرز في مقدمة الكتاب، فعلامات الترقيم، لدى أرمسترونغ، لها دور في بناء المعنى، خصوصاً حين كان يكتب بيده، فـ"المعترضتان" كانتا أسلوباً يهدف إلى إبعاد الكلمة عن معناها الحرفي. ذات الأمر ينطبق على الكلمات بالأحرف الكبيرة، وتلك التي تحتها خط، والمائلة. وكأن أرمسترونغ يحاول أن ينقل نبرته وأسلوب كلامه إلى ما هو مكتوب، وكأنه يتخفف من ثقل تدفق الكلام المكتوب وقواعده، وجعله أكثر صوتيّة، أو ربما أكثر موسيقيّةً.
الكتابة لدى أرمسترونغ، واهتمامه بفن السيرة الذاتيّة، ليسا فقط محاولة لتأريخ الذات أو رسم صورة الأنا في التاريخ، بل شكل من أشكال المقاومة، ومحاولة إيصال "صوته" إلى من هم خارج جمهوره الملوّن؛ إذ نقرأ كيف كان يكتب رسائل متنوعة لمدير أعماله الأبيض، جوزيف غلاسر، ليوفر له مواد دعائية يمكن الاستفادة منها لاحقاً في المقالات التي تُكتب عنه، وكأن مدير أعماله هذا وسيط بينه وبين الجمهور الأبيض.
يبدو الأمر، بداية، كاستراتيجيّة تسويقيّة، وهذا حق، لكنه أيضاً محاولة لمقاومة ما يقف بوجه أرمسترونغ/ الفنان الملوّن، فالكتابة عن الماريجوانا كانت خطرة، لذا كانت تستخدم الرموز والشيفرات في الحديث عنها، فضلاً عن تغيير الكلمات والتلاعب بها للحديث عن الممنوعات والشؤون الإشكاليّة التي تمسّ الثقافة السوداء. فهذا التلاعب اللغوي والاقتباس من "لهجات" متعددة، يتضح في كتاب أرمسترونغ، ويوضح دوره في تأريخ تلك الفترة موسيقياً وسياسياً.
يظهر الصوت الأسود في الكتاب كأنه "ممنوع" ومهدّد. وهنا يمكن أن نفهم سبب اختيار أرمسترونغ للسيرة الذاتية كشكل أدبي، هو يكتب كما يريد أن يَقرأ وأن يُقرأ أيضاً. وهنا، تظهر ممارسة الكتابة بوصفها نداءً موجهاً إلى الـ "كل".
ونقصد هنا اللونين، ما يعني أن هناك دوماً حكاية بيضاء وأخرى سوداء. وهنا تأتي ضرورة السيرة الذاتية ودورها التاريخيّ. هي محاولة من فرد تمكّن عبر الموهبة والصراع مع الفصل العنصري، من أن يصل إلى الجميع، كذلك فإنها محاولة منه لإعادة امتلاك "الأنا" وصوتها وأسلوب تقديمها، لا فقط لحظة الكتابة، بل أيضاً أمام التاريخ أيضاً؛ إذ يمكن اعتبار سيرته هذه شهادة على تاريخ "الهجرة الكبرى" إلى شيكاغو منذ عام 1916، إذ نقرأ كيف يصف أرمسترونغ نفسه والطبقة الجديدة التي ينتمي إليها بعد "هجرته"، الأمر الذي دفعه إلى الانفصال عن زوجته الأولى بسبب الاختلاف الطبقي، إذ أصبح "رجلاً مختلفاً"، منذ أن ترك نيو أورلينز.
يشير بروذيرز في مقدمة الكتاب إلى أنه لعب دور المُحرر فقط، إذ لم يصحح ما فيه من معلومات، لكنه صحّح كل الأخطاء الإملائية، الأمر الذي يثير الاهتمام؛ فوجود أخطاء إملائية بالرغم من تنقل أرمسترونغ مع معجم، يعني أنه يُهمل معجمه أحياناً، ويكتفي بتدفق كلماته كما هي. كذلك فإن المحرر لم يصحح الأخطاء القواعدية، أي يمكن القول إنه حرّر من دون أن يُخلّ بصوت أرمسترونغ، بل حافظ على "أخطائه" وارتجالاته وأسلوب تقسيمه للجمل والفقرات.
ولا يمكننا، هنا، إلا أن نشير إلى المقارنة بين أسلوب كتابة أرمسترونغ وموسيقاه؛ فالتدفق محكوم بالنفس، واللحن، لا الانضباط القواعديّ والصرامة في تقطيع "الجمل". وكأن أرمسترونغ يكتب لنفسه أولاً (الكتابة هوايته) ثم للآخرين، بل يمكن تخيله في كواليس مسرح، يرتدي قميصه الأبيض، ويدخن "جوينته" غير آبه لشيء، يضرب على آلته الكاتبة، ويبتسم حد ملء الصفحة أمامه.