قبل أيام من رحيله، سلّم الكاتب الفرنسي جان جينيه (1910 - 1986) لمحاميه حقيبتين مليئتين بالأوراق والوثائق. احتوت الحقيبتان على عدد من الصور الفوتوغرافية، ومئات الأوراق المبعثرة من رسائل وفواتير الفنادق، وحتى تذاكر القطارات، وكثير من الحواشي والملاحظات المكتوبة على قصاصات من ورق، أو صفحات ممزقة من صحف ومجلات. ملاحظات وحواشٍ عن كل شيء وعن أي شىء. بين هذه الأوراق، كانت هناك مسودة لكتاب "أسير عاشق"، وهو كتاب خطّه جينيه عن نضال الفلسطينيين.
صدر كتاب "أسير عاشق" بعد رحيل جان جينيه بشهر واحد. أما المحتويات الأخرى للحقيبتين، فقد ظلت محفوظة لدى محاميه حتى وقت قريب.
هذه المحتويات التي تركها جان جينيه تُعرض حالياً في معهد العالم العربي في باريس تحت عنوان "حقائب جان جينيه". توضح هذه الأوراق والوثائق تطور اهتمام جان جينيه بالقضية الفلسطينية، إذ يعد الكاتب الفرنسي الراحل من أبرز المناصرين الغربيين لهذه القضية، وقد ارتبط اسمه بها حتى رحيله.
يضم العرض أيضاً نماذج من أغلفة أعداد مجلة الدراسات الفلسطينية التي كان جينيه من أبرز المساهمين بالكتابة فيها، وتولى وضع رسومها فنانون شهيرون، مثل ألبرتو جياكوميتي وإيتيل عدنان وكمال بُلاطه وضياء العزاوي.
هذا العرض المهم لوثائق الكاتب الفرنسي جان جينيه يمثل جانباً من عرض أكبر يستضيفه حالياً معهد العالم العربي في العاصمة الفرنسية حتى الـ31 من الشهر الحالي. ينظم هذا المعرض تحت عنوان "ما تقدمه فلسطين للعالم"، ويضم برنامجاً مكثفاً من الأنشطة والفعاليات المتعلقة بفلسطين. انطلق هذا البرنامج في نهاية مايو/ أيار الماضي إحياءً للذكرى الخامسة والسبعين للنكبة. ولا شك أن امتداد هذه الفعاليات، وتزامنها مع الجرائم الحالية التي يرتكبها الاحتلال إسرائيلي في غزة، يسهمان في دعم الأصوات المساندة لفلسطين، ويبعثان للعالم رسالة واضحة مفادها أن الفلسطينيين باقون في أرضهم، وأنهم يقاومون بشتى الطرق، مهما امتدت سنوات النضال واشتدت المحن.
إلى جانب عرض وثائق جان جينيه، تضم هذه الفعاليات والأنشطة عرضين آخرين، يقام أولهما تحت عنوان "فلسطين: أرض أسطورية.. أرض مأهولة"، ويضم مجموعة نادرة من الصور الملونة التي تعود إلى القرن التاسع عشر لمشاهد طبيعية من فلسطين. تُعرض هذه الصور إلى جانب مجموعة مختارة من أعمال المصورين الفلسطينيين المعاصرين.
يتيح لنا هذا التجاور بين مجموعتي الصور مقارنة بين الصور النمطية للأرض المقدسة كما رآها المصورون المستشرقون، وصورتها الحقيقية التي سجلها الفنانون الذين يعيشون حالياً في فلسطين أو ينحدرون منها.
العرض الآخر يحمل عنوان "الفلسطينيون عبر متاحفهم"، ويسلط الضوء على أعمال ومشاريع عدد من الفنانين الفلسطينيين الحداثيين والمعاصرين. جُلبت هذه الأعمال الفنية المشاركة في العرض من ثلاثة متاحف مختلفة، وهي متحف فلسطين الوطني في رام الله، ومتحف معهد العالم العربي في باريس، ومتحف السحاب، وهذا الأخير افتراضي تأسس عام 2021.
تتشابك هذه الأعمال المجلوبة من المتاحف المختلفة مع القضية الفلسطينية وتفاصيلها الممتدة على مدى قرن كامل، غير أن الأعمال التي تعود إلى المتحف الافتراضي (متحف السحاب) تشتبك دون غيرها مع الأحداث الواقعة حالياً على نحو مباشر. تضم هذه الأعمال لوحة للفنان الفلسطيني الشاب محمد سامي قريقع، الذي استشهد داخل المستشفى المعمداني بعد قصف الطائرت الإسرائيلية له.
متحف السحاب هو مشروع فني أطلقته مجموعة حواف، وهي مجموعة تضم عدداً من المثقفين والناشطين الفلسطينيين والعرب والأجانب. يتمثل المشروع في إقامة متحف افتراضي يحمي التراث الأثري والتاريخي والفني للقطاع المحاصر، إذ يبقى النظر إلى السماء هو الوسيلة الوحيدة للحلم، هذا حسب ما جاء في البيان التعريفي للمتحف. وهو افتراضي لأنه الوسيلة الأكثر أمناً في ظل العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة وحصاره. كما أن هذه العزلة والأوضاع الاستثنائية تجعل من إقامة متحف حقيقي أمراً مستحيلاً، إذ سيكون مهدداً طوال الوقت. ولأنه متحف خال من الجدران، سيتمكن من استيعاب أكبر كمية من المعروضات.
يسلط متحف السحاب الضوء على الإبداعات المعاصرة ويدافع بشكل خاص عن إنشاء الأعمال الفنية الرقمية والتركيز على مستقبل أكثر إشراقاً من خلال ممارسة الخيال.