تلعب استخبارات المصادر المفتوحة دوراً كبيراً في تغطية الأحداث العالمية خلال السنوات الأخيرة، من احتجاجات الربيع العربي إلى الحربين السورية والليبية، لكنّ دورها برز بشكلٍ كبير خلال الحرب الروسية على أوكرانيا التي اندلعت في فبراير/ شباط من العام الماضي.
كما يدلّ الاسم، يختلف هذا النوع من العمل الاستخباري عن النمط السريّ المعتاد، إذ يقوم بشكلٍ أساسي على جمع وتحليل المعلومات غير السريّة، مثل التقارير الصحافية والتلفزيونية والبيانات الحكومية والأوراق البحثية.
بعد سنواتٍ قليلة على الهجوم على برجي مركز التجارة العالمي، عام 2001، أسّست وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) مركز المصادر المفتوحة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2005، وذلك بعد توصيات بضرورة الاعتماد عليها إلى جانب المعلومات السرية، جاء أبرزها من اللجنة الوطنية للتحقيق في اعتداءات 11 سبتمبر.
في إبريل/ نيسان من عام 2006، نقلت "ذا واشنطن بوست" عن مدير المركز دوغلاس ناكين قوله إنهم "يحصلون على الكثير من المعلومات الثرية من المدونات الإلكترونية التي تخبرنا بالكثير عن الأوضاع الاجتماعية، بدءاً من الشعور العام وصولاً إلى معلومات حصرية ينشرها أفرادٌ عاديون". أكّد دوغلاس للصحيفة أنّ الصعود الكبير للمدونات في تلك الفترة أدّى إلى "ارتفاع كبير نسبياً في كمية التقارير مفتوحة المصدر التي تدخل في الموجز اليومي للرئيس" جورج بوش حينها.
انفجار المعلومات
مع استمرار تطوّر التكنولوجيا وازدياد الاعتماد على الإنترنت في السنوات الأخيرة، شهدت استخبارات المصادر المفتوحة دفعةً كبيرة. في وقتٍ قصير توفّرت أمام العاملين في المجال مليارات الصور والفيديوهات والتدوينات المنتشرة عبر منصات التواصل الاجتماعي، وترافق ذلك مع تطوّر الأقمار الاصطناعية وظهور تطبيقات خرائط مثل "غوغل مابس". صارت هذه الأدوات الجديدة تشكّل مصدراً أساسياً للمعلومات، إن كان للأجهزة الأمنية أو للباحثين والمحلّلين، هواةً كانوا أم محترفين.
وقال الموظف في وزارة الدفاع السويدية ماثيو فورد، لـ"ذي إيكونوميست" الأسبوع الماضي، إنّ السنوات العشر الأولى من الحرب في سورية أنتجت مقاطع فيديو يبلغ مجموع وقتها 40 عاماً، بينما أنتجت حرب أوكرانيا مقاطع فيديو تبلغ مدّتها 10 أعوام خلال 80 يوماً فقط.
هذا التدفق الهائل للمعلومات غيّر الطريقة التي يتلقى بها الناس الأخبار اليوم. تستشهد "ذي إيكونوميست" بمراسل "بي بي سي" روبرت فوكس. في 29 مايو/ أيار 1982، شهد فوكس جولة قتال عنيفة حول منطقة غوس غرين، خلال حرب الفوكلاند بين بريطانيا والأرجنتين. وعندما أراد إيصال الخبر إلى لندن، استغرق 10 ساعات للاتصال بهاتف يعمل بالأقمار الاصطناعية موجود على سفينة حربية، واحتاجت الرسالة 8 ساعات لفكّ تشفيرها، وبالتالي لم يصل الخبر إلى بريطانيا إلّا بعد مرور أكثر من 24 ساعة على وقوعه.
على العكس من ذلك، لم يستغرق الأمر سوى بضع ساعات، أو ربّما دقائق، لينتشر خبر استعادة الجيش الأوكراني لمدينة خيرسون جنوبي البلاد من الروس، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. أظهرت الصور المتداولة عبر تطبيق تليغرام جنوداً أوكرانيين يتجولون وسط المدينة ويرفعون علم بلادهم فوق أبنيتها. آنذاك، راقب محلّلون هواة، عبر "تويتر"، التقدّم الأوكراني، مباشرة تقريباً، باستعمال تقنية تحديد الموقع الجغرافي للصور، عبر مقارنة الأشجار والمباني بصور الأقمار الاصطناعية التي توفّرها خدمة خرائط غوغل وغيرها.
حتّى في الفترة التي سبقت اندلاع الحرب، سمحت صور الأقمار الصناعية ولقطات الفيديو للقوافل الروسية، على "تيك توك"، للصحافيين والباحثين بتأكيد المزاعم الغربية عن نيّة موسكو غزو جارتها. نجحت الاستخبارات التي تعتمد على المصادر المفتوحة في توقع موعد انطلاق الحرب. كان الموظف في معهد ميدليري في كاليفورنيا، جيفري لويس، أحد هؤلاء، بعد أن اعتمد على تقارير "غوغل مابس" حول حركة المرور على الجانب الروسي من الحدود مع أوكرانيا فجر 24 فبراير. يومها، كتب لويس على "تويتر": "أحدهم يتحرك"، وبعد أقل من ثلاث ساعات انطلقت الحرب.
كذلك، تلعب صور الأقمار الصناعية دوراً مهماً، كما جرى أثناء الهجوم على خيرسون، إذ أظهرت الأقمار الاصطناعية، التي تستطيع المراقبة خلال الليل وعبر الغيوم، القوات الروسية تبني جسوراً عائمة فوق نهر دنيبر قبل انسحابها من خيرسون. وفي وقت لاحق، أظهرت بناء الجيش الروسي مواقع دفاعية جديدة على طول الطريق السريع إم 14.
كانت الأقمار الاصطناعية مناسبةً للتعرّف وتصنيف القوات الروسية المنتشرة في الأماكن المكشوفة، لكنّها لم تكن فعالة جدّاً في اكتشاف المجموعات الصغيرة من المقاتلين المنتشرين في الخنادق والمخابئ، على العكس من "تليغرام" الذي تحوّل إلى أهمّ مركزٍ للمعلومات منذ انطلاق الحرب.
"تليغرام" مستودع البيانات
يبحث محللو المصادر المفتوحة في قنوات "تليغرام" متعدّدة، منها "رايبر" التي تضم أكثر من مليون متابع، لجمع الصور والشهادات والحالة النفسية للمقاتلين في ساحة المعركة. مؤسّس هذه القناة ميكيل زفينتشك عمل سابقاً في القسم الإعلامي لوزارة الدفاع الروسية، ويُقال إنّ له صلات بمجموعة مرتزقة فاغنر الروسية، لكنّه يقدّم روايات دقيقة نسبياً وخلال وقتٍ قصير من وقوعها عن مجريات المعارك، وغالباً ما ينتقد السياسة الروسية.
وتمثّل هذه القناة نموذجاً عن عددٍ كبيرٍ من القوميين الروس المؤيدين للحرب، لكنّهم ينشطون على "تليغرام" للتعبير عن اعتراضهم على كيفية إدارتها. وسبق لهذه القنوات، على سبيل المثال، نشر صور وفيديوهات لجنود من دون معدات أساسية خلال الهجوم على خيرسون، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
يشكّل الكمّ الضخم من البيانات الذي تنشره هذه القنوات والحسابات كابوساً حقيقياً للقيادة العسكرية الروسية التي تتخذ خطوات لكبح تدفق المعلومات منذ ما قبل الحرب. عام 2019، أصدرت الحكومة قانوناً يمنع الجنود من تحميل الصور أو مقاطع فيديو حساسة. ولاحقاً، قبيل اندلاع الحرب، أغلقت المواقع الإلكترونية الخاصة بتتبع حركة القطارات، كما أخفت الإشارات التي تدلّ على أسماء الوحدات عن ملابس جنودها وآلياتهم. كذلك، اتّخذت إجراءات صارمة ضد العسكري الروسي السابق إيغور غيركين، بسبب انتقاداته لأداء قادة الجيش عبر "تليغرام"، علماً أنه أحدّ المؤيدين البارزين لانفصال دونباس عن أوكرانيا.
على الرغم من ذلك، فإن الحكومة لم تنجح في إسكات المعترضين، إذ واصل هؤلاء، ومن ضمنهم غيركين، انتقاداتهم لقادة الجيش بعد مقتل 89 عسكرياً روسياً في هجوم أوكراني مطلع العام الجديد. ورأى المحلل في شركة استخبارات أتريدس، توم بولوك، أنّ روسيا فشلت في وقف تدفق المعلومات، إن كان عبر "تليغرام"، أو عبر النظير الروسي لـ"فيسبوك" وهو "في كي".
وكان لهذه الثغرات عواقب قاتلة، كما جرى في ديسمبر/ كانون الأوّل الماضي، حين نشر متطوع روسي صوراً عبر "في كي" لقوات روسية في نادٍ ريفيٍ في منطقة تدعى ساهي في خيرسون، مع تحديد موقعه الجغرافي. احتاج الأمر لبعض الوقت، قبل أن تقصف القوات الأوكرانية المكان. ولفت بولوك إلى أنّ معاناة الروس ستستمر في هذا الجانب، نظراً لوجود مئات آلاف المجندين الذين "لا يملكون الخبرة في ساحات المعركة والحاصلين على مقدار ضئيل من التدريب الأمني"، مذكراً بمتطوع روسي أرسل إلى خيرسون في يونيو/ حزيران الماضي، ونشر صوراً لكلّ قرية مرّ بها، ممّا سمح للجيش الأوكراني بكشف المسار الدقيق لخطوط الإمداد الروسية.
وتعتمد القوات الأوكرانية على التكنولوجيا والمصادر المفتوحة التي توفّرها منصات التواصل الاجتماعي بشكلٍ أساسي في خياراتها العسكرية والميدانية. وكانت "ذا غارديان" قد كشفت في تقريرٍ، نشر في ديسمبر الماضي، عن إنشاء الجيش الأوكراني 6 مراكز مراقبة وتتبّع عن بعد للقوات الروسية، تعتمد على برمجية دلتا التي طوّرها مبرمجون مدنيون أوكرانيون. ويلعب محلّلو المصادر المفتوحة دوراً رئيسياً في تغذية "دلتا" بالبيانات، إلى جانب صور الأقمار الاصطناعية.
عوائق وحدود
على الرغم من ضخامة ما تقدمه هذه المصادر المفتوحة من معلومات وبيانات، فإن لقدرتها وفعاليتها حدودا. في إحدى المرات، استهدفت القوات الأوكرانية وحدة شيشانية قرب العاصمة كييف، بعد 40 دقيقة من تحميل فيديو على "تيك توك"، لكن هذه العملية تستغرق عادةً بين يومٍ وثلاثة أيام، وفقاً للمحلل في مؤسسة هالو ترست الخيرية، أندرو ماثيوسون.
كذلك، يمكن أن تعطي المصادر المفتوحة صورةً خاطئةً عن مجريات الأحداث. بحسب "ذا إيكونوميست"، تنتشر فيديوهات لدبابات أوكرانيةٍ تدمّرها الصواريخ المضادة للدبابات.
مع ذلك، فإنّ العدد الأكبر من الخسائر في لواء الدبابات كان نتيجة الألغام الأرضية، لا الصواريخ. كما أنّها يمكن أن ترسم صورة مخادعة توافق أهواء المراقب من دون أن تكون معبّرة عن واقع المعارك، إضافةً إلى أنّها تجعله عرضةً للخديعة بدعاية الأفرقاء المتحاربين.
وتمكن ملاحظة ذلك في استمرار انتشار مقاطع فيديو لمسيرات بيرقدار الأوكرانية وهي تقصف القوات الروسية، على الرغم من أنّ الاعتماد على هذه الطائرات اقتصر على الأشهر الأولى من الحرب فقط.
وعلى الرغم من هذه التعقيدات، فإنّ تركيز وكالات الاستخبارات الغربية على المصادر المفتوحة يتزايد، مع توجه لإدماج تقنياتها أكثر وأكثر مع التقنيات السرية التقليدية.
ووفقاً لمسح أجرته منظمة أوكرانية غير حكومية في مايو/ أيار الماضي، فإن أكثر من 76% من الأوكرانيين يستخدمون منصات التواصل للبقاء على دراية بمجريات الحرب والتفاعل معها، فيما باتت منصات مثل إنستغرام ويوتيوب وفيسبوك وتيك توك أبرز مصادر الأخبار في البلاد.