افتتح الفنان الفرنسي إيف كلان، عام 1958، معرضاً يحمل عنوان "الفراغ" في باريس. حين دخله الجمهور، دُهشوا بأنهم أمام صالة فارغة. المكان خال لا يحوي أي شيء، سوى مرحاض في منتصفه. وحسب ما نقرأ، فإن ثلاثة آلاف شخص انتظروا في طابور طويل كي يدخلوا صالة فارغة. وعلى الرغم من كل التأويلات، ومحاولات فهم كلان، وعلاقته مع الطاقة ورغبته في الرهان على هالة الفنان، لكننا، في نهاية الأمر، نقف وسط صالة فارغة!
الحذلقة نفسها حصلت عام 1961، حين عرض الفنان الإيطالي بيرو نازيني عدة علب معدنية تحمل عنوان "براز الفنان". بصورة أدق، كل علبة تحوي 30 غراماً من براز الفنان، وبيعت واحدة منها بـ124 ألف يورو في عام 2007، وارتفع السعر ليصل، عام 2016، إلى 275 ألف يورو لعلبة البراز الواحدة! حاول أحد المقتنين فتح واحدة من العلب، ونجح في ذلك، ووجد داخلها مادة غريبة وورق؛ أي ما لا يمكن وصفه بالبراز. المثير للاهتمام، لاحقاً، أن متحفاً في الدنمارك اضطر إلى دفع تعويض إلى واحد من مقتني هذا العمل، كونهم خزنوه بصورة سيئة، ما أدى إلى تسرب المحتويات.
تتالت هذه "الحركات" و"الزعرنات" الفنية منذ الستينيات؛ فبانكسي يمزّق لوحاته في المزاد العلنيّ، وجيف كونز يعرض مكانس كهربائية... كل هذا والنقود تدفع مقابل "لا شيء" تقريباً. لكن يبدو أن "متحف كونستن للفن الحديث"، شماليّ الدنمارك، لم يتحمل هذه اللعبة؛ إذ طلبت إدارته من الفنان يِنس هانينغ إعادة مبلغ 84 ألف دولار أميركي دفعت له باليد، بعدما خدعها؛ فعوضاً عن إنتاج أعمال فنيّة باستخدام وثائق بنكية، تمثل دخل الفرد في الدنمارك والنمسا، أرسل هانينغ إطارات فارغة، واحتفظ بالنقود.
“Take the Money and Run,” by artist Jens Haaning (2021) pic.twitter.com/sC3UQojHRd
— TLOV.J. (@VaJohn) September 27, 2021
عنون هانينغ الإطار الفارغ بـ"خذ النقود واهرب". ووصف ذلك، لاحقاً، بقوله "هذا هو العمل الفني: أن آخذ نقودهم". رد المتحف وإدارته جاء مليئاً بالامتعاض، على الرغم من محاولة استيعاب الصدمة؛ إذ وصفت مديرة المتحف اللوحة بـ"المضحكة". لكن، في هذا السياق، نشير بدقة إلى أن الإنتاج الفني "عمل" في النهاية، والكثير من الفنانين تُهضم حقوقهم ويعملون ضمن شروط سيئة. ويبدو أن الحل هو أخذ النقود من المتحف، لا كمحاولة مفاهيمية لانتقاد سوق الفن، بل للدلالة على قوانين العمل نفسها، التي تحوي أيضاً "الشطارة" و"النصب" والسعي إلى المطالبة بالتعويضات.
لا نعلم حقيقة في صف من نقف؛ المتحف كمؤسسة فنية ومالية تحاول وضع معايير للفن، وتنتصر لمرة واحدة ضد "الرداءة"، أم نقف إلى جانب الفنان الذي يحاول سد رمقه، وإنتاج أعمال يضطر إلى دفع تكاليفها من جيبه، خصوصاً أن الانحياز إلى أحد الطرفين يعني موقفاً أيديولوجيا وجمالياً، وبالطبع اقتصادياً، خصوصاً أن سوق الفن فقاعة لا تنفجر، وإنّما تستمر بالاتّساع. سوق كل ما فيها يزداد ثمنه مع الوقت، بل وتحولت الآن إلى مهرب ضريبي، وأسلوب لغسل الأموال التي لا ينال الفنان منها سوى الفتات.
لا ندري أيضاً إن كان سوق الفن الذي يتعرض إلى انتقادات دائمة، من داخله وخارجه، قد وصل إلى حد الإشباع أو الرغبة في التغيير، خصوصاً أن قشور الموز، واللوحات الممزقة والفارغة، والمراحيض، ملأت الكثير من الصالات؛ أي يمكن القول إن سوق الفن مفضوح.
ربما، تمثّل هذه اللوحة الفارغة دعوةً للفنانين ليستعيدوا دورهم "الشرير"، ويحاربوا المؤسسة، بعيداً عن نظرية الفن وعلم الجمال، بل من خلال توجيه هالتهم وأسلحتهم إلى أساس هذه المؤسسة؛ أي المال، والمعايير التي يضعها. لنتخيل فقط ماذا يمكن أن يحدث لو "سرق" كل الفنانين المبالغ المصروفة عليهم، واستبدلوها بلوحات فارغة! هل سيتعاقد المتحف مع غيرهم ويستبدلهم؟ أم سينهار المتحف وسلطته ويتحول إلى مكان للعرض فقط، لا لشرب الشامبانيا والمزايدة بين جامعي الفن؟