في عالم الموضة المتغير والمتسارع، تبرز شخصيات تسعى إلى تحقيق التوازن بين الإبداع والمسؤولية الاجتماعية. من بين هؤلاء، مصممة الأزياء القطرية مشاعل النعيمي التي تمكنت من تحويل شغفها بالاستدامة إلى علامة تجارية مميزة تجمع بين الأصالة والابتكار. من خلال علامتها "مهفهف"، قدمت النعيمي رؤية جديدة للأزياء، فتتداخل الحرف اليدوية التقليدية مع تصاميم معاصرة تعكس احتراماً للبيئة والتراث.
في هذا اللقاء، نغوص في رحلة مشاعل النعيمي، لنتعرف إلى الدوافع التي قادتها للدخول في عالم تصميم الأزياء المستدامة، وكيف استطاعت أن توازن بين التحديات التجارية والأهداف البيئية، لتقدم لنا تصاميم ليست مجرد قطع من القماش، بل قصص تُروى عبر الأجيال.
ما الذي ألهمك للدخول في عالم تصميم الأزياء المستدامة؟ وأيهما سبق الآخر، اهتمامك بالاستدامة أم بعالم تصميم الأزياء؟
في البداية، لم يكن لدي اهتمام كبير بالأزياء. كان ذوقي بسيطاً، ولم أكن أتابع صيحات الموضة. لكن الاستدامة كانت دائماً مهمة بالنسبة لي، فهي مسؤولية مشتركة بيننا جميعاً، مجتمعاً وبشراً، للحفاظ على الموارد والخيرات التي نعيش فيها. الاستدامة ليست فكرة جديدة أو مستوردة من الغرب، بل هي جزء من تراثنا وثقافتنا القديمة. أجدادنا مارسوا الاستدامة في جميع تفصيلات حياتهم، فكانوا يحافظون على النعمة ويستغلون الموارد المتاحة من دون إهدار. لم يكن لديهم وفرة في الموارد، لكنهم عرفوا كيف يستغلونها بفعالية. ما نحتاجه الآن هو العودة إلى تلك الأساليب التقليدية، حين كنا نستخدم الملابس والأشياء لفترات طويلة، ونعيد تدويرها بدلاً من التخلص منها بسهولة. من يتخلص من الأشياء بسهولة يفقد القدرة على تقدير قيمتها، وهذه هي المشكلة الحقيقية التي نواجهها في مجتمعنا اليوم. فالاستدامة بالنسبة لي تتجاوز الأزياء وتشمل جميع جوانب الحياة.
ما سبب اختيارك لاسم "مهفهف"؟
الكلمة تعني النعومة والرقة، وهذا يعبّر عن الأقمشة والملابس التي أصمّمها. واخترت الحرير كأحد المواد الرئيسية في تصاميمي لأنه يجسّد تلك النعومة والرفاهية. - كيف كانت بداياتك؟ * عندما بدأت في مجال الملابس المستدامة، كنت أبحث لنفسي عن أشياء بسيطة ومريحة، مثل الملابس القطنية الخفيفة، خصوصاً بعد أن تركت الوظيفة وأصبحت لدي حرية أكبر في اختيار ملابسي، بعيداً عن الالتزام بألوان محددة مثل الأسود. في البداية، كنت أسافر إلى الهند، ورأيت كيف ينسجون القطن والحرير، ولكني لم أفكّر في شراء ذلك النوع من الأقمشة لأنني لم أكن على دراية كبيرة بالخياطة. كنت أشتري الملابس الجاهزة لأنها أسهل وأكثر عملية بالنسبة لي. لكن بعد تقاعدي وتفرغي، بدأت أفكر في تجربة أشياء جديدة. بدأت أولاً في تصميم الملابس لي، وبعد أن نالت تصاميمي إعجاب من حولي، توسعت في تصميم العبايات للمحيطين بي. بعدها، بدأت بالتعاون مع مصممي أزياء مختصين في الاستدامة، وتعلمت منهم الكثير في السنين الماضية، خاصة خلال فترة كوفيد-19، إذ كنا نقضي وقتاً طويلاً في المنزل، فبدأت بطلب عينات من الأقمشة والتعرف على الخيارات المتاحة. اكتشفت أن هناك كثيراً من الأقمشة المستدامة الجميلة، وحتى الألوان الطبيعية التي كان أجدادنا يستخدمونها قبل الثورة الصناعية. مثلاً، الألوان التي تستخرج من شجر اللوز كانت تُستخدم في الماضي في تلوين الملابس، وكانت لها فوائد صحية وتجميلية أيضاً، إذ استخدمتها جداتنا كأحمر شفاه وللحفاظ على صحة اللثة.
ما هي مصادر الإلهام في تصاميمك؟ وهل كان لشخص أو حدث معين دور في تشكيل رؤيتك الإبداعية؟
أستوحي تصاميمي من مصادر متعددة، معظمها يرتبط بمشاعر الإنسان وذكرياته. قد يكون شيئاً عادياً بالنسبة لأحدهم، ولكنه يترك أثراً عميقاً على شخص آخر. أحياناً، أستلهم أفكاري من الطبيعة، ولكن غالباً ما تستمد تصاميمي قوتها من مشاعر الحنين. قد يثير عطر معين في ذهني ذكريات عن أشخاص أحببتهم، مثل جدتيّ ووالدتي، أو حتى والدي رحمه الله. كل هذه المشاعر والذكريات تتجسد في تصاميمي كمحاولة لاسترجاع الماضي والاحتفاظ بلحظات الطفولة الجميلة والزمن الذي كان أبسط وأجمل. منذ البداية، كانت بيئتنا وكل ما هو شرقي من معمار وألوان وطبيعة هو ما يلهمني حقّاً. أما الغرب، فلم يكن له تأثير عليّ؛ الموضة الغربية وعروض الأزياء وأسابيع الموضة، وكل تلك الصيحات، لم تكن تعني لي. ما يلهمني ويحفزني في عملي هو التراث الشرقي، والثوب التقليدي، والتطريز، والحرف اليدوية. أحب أن أركز على هذه العناصر وأجعلها الأساس في تصاميمي.
ما هي أهم العوامل التي تأخذينها بعين الاعتبار عند تصميم الأزياء، سواء من الناحية الجمالية أو الوظيفية أو البيئية؟
هناك عدة عوامل أضعها في الاعتبار عند تصميم الأزياء. أول ما أهتم به هو اختيار النسيج، فهو البداية. أفكر في نوع القماش الذي أريده: هل يكون حريراً ناعماً أم خشناً؟ من بين الأنواع التي أستخدمها الحرير الذي يُعرف باسم "بيس سيلك" (Peace Silk)، الذي يتميز بنسيجه الخشن ولكنه مستدام بيئياً. يُستخرج من دون إلحاق أي ضرر بدودة القز، فتُترك لتتحول إلى فراشة قبل أن تُحصد الشرنقة. هذا بالنسبة لي هو الجمال الحقيقي، أن نصنع شيئاً جميلاً من دون إلحاق أي ضرر بالبيئة أو الإساءة إلى أي كائن حي. بعد اختيار النسيج، أبدأ بالتفكير في الألوان التي يمكن أن تثبت عليه. فبعض الأنسجة تتحمل الصباغة الثقيلة، وبعضها لا يتحمل. مثلاً، الحرير من نوع "بيس سيلك" يتحمل كثيراً من العمليات الفنية لأنه أخشن، وهذا هو السبب الذي يجعلني أفضله. بهذا، يمكنني استخدام خمس تقنيات حرفية مختلفة على هذا النوع من النسيج.
هل يمكنكِ إطلاعنا على الخطوات التي تتخذينها لتخرج تصاميمك بصيغتها النهائية، بدءاً من اختيار الأقمشة، إلى الألوان والنقوش وأدوات الطباعة؟
عندما أبدأ في تصميم الأزياء، أول ما أفعله هو اختيار الأقمشة. أعمل مع النساجين لاختيار الخامة المناسبة، سواء كانت ضعيفة أو متينة. أحياناً، أغيّر في التصميم خلال العملية، أو أستغل الأخطاء التي قد تحدث لتحويلها إلى شيء جميل. لا أحب إهدار أي من الموارد، كل قطعة يمكن استخدامها. بعدها، أنتقل إلى مرحلة الألوان. أحياناً، أختار لوناً معيناً، لكنه يظهر بشكل مختلف بسبب الظروف، مثل موسم الأمطار في الهند. فحتى لو لم يكن اللون كما توقعت، أعمل عليه وأضيف له لمسات خاصة. أستخدم خلال العملية تقنيات قديمة أحبها، مثل إعادة تدوير الأقمشة القديمة وتحويلها إلى خيوط جديدة. واستخدم مواد طبيعية، مثل شجر اللوز الذي كان يُستخدم قديماً للزينة، وأحوله إلى صبغة تعطي لوناً جميلاً هو لون المارون (نفس لون علم قطر)، يمكن تعديله ليصبح غامقاً أو فاتحاً حسب الحاجة. كما تمكنت من تطوير الحرف هذه، باستخدام الحنة الدائمة وتقنية الـ3D في التصميم. لكن، إذا كنت أشارك في مسابقة أو برنامج معين، فإني ألتزم بالتصميم كما هو، أما إذا كنت أعمل على مجموعة خاصة بي، فأمنح نفسي حريتها. حتى أني لا أتقيد بمواسم محددة كباقي المصممين. فبالنسبة لي، كل شيء يأتي تلقائياً.
كيف تستطيعين تحقيق التوازن في تصاميمك بين الأصالة والعصرية ومتطلبات السوق من جهة، والاستدامة من جهة أخرى؟
لا أركز كثيراً على العصرية أو متطلبات السوق في تصاميمي. بالنسبة لي، الأهم هو الجودة والاستدامة. أؤمن بأن العملاء يجب أن يكونوا على دراية بما يشترونه، وأن يختاروا ما يناسبهم وما يكون صحياً لهم ولعائلاتهم. العصرية ليست الهدف، بل الحفاظ على التراث وتقديم شيء ذي قيمة وجودة عالية.
ما هو أقرب أمر إلى قلبك في عملية التصميم؟
أحب الأقمشة المعاد تدويرها، لأنها تعبر عن قصة تحول. تحويل شيء مهمل وغير مرغوب فيه إلى قطعة فنية ترتديها شخصيات مهمة ومؤثرة، هو بالنسبة لي إنجاز كبير. الأقمشة التي كانت ستُرمى وتُحرق، تصبح جزءاً من شيء جميل ومفيد. كل شيء يعتمد على كيفية تعاملنا مع المواد التي نستخدمها، إذا منحناها الرعاية والاهتمام، ستظهر قيمتها الحقيقية.
كيف تغلبت على التحديات التي واجهتك؟
أصعب تحدٍّ في الاستدامة هو أن كمية المُنتج النهائية قليلة، وبالتالي هناك محدودية في الربح. كنت أعلم أن الربحية ستكون محدودة بسبب التزامي بالإنتاج المستدام وبكميات قليلة. لذلك، ركزت على إضافة قيمة حِرفية لا يستطيع أي شخص تقليدها، وابتكار قطع فريدة تستحق الاستثمار فيها. ما زلت أحتفظ بثوب والدتي من السبعينيات، وهو معلق بعناية. لقد ارتدينا هذا الثوب واعتززنا به، وأصبح بالنسبة لي شيئاً ذا قيمة أحتفظ به. أتمنى في يوم من الأيام أن تصل تصاميمي إلى من يعتز بها ويحافظ عليها، ويعتبرها قطعاً فنية، فلا تُرمى ولا تُهمل.
هل هناك تعاون مع مؤسسات أو منظمات بيئية؟
أحب كثيراً التعاون مع المنظمات غير الحكومية، فأتعامل مع مؤسسات في الهند تُعنى بذوي الاحتياجات الخاصة منذ نحو أربع سنوات، إذ يدوّرون كثيراً من الأقمشة، وأنا بدوري أعلّمهم مهارات جديدة. على سبيل المثال، كيفية استخدام الجلد القديم وتنظيفه وإعادة تدويره، وكيفية إضافته إلى العباءات أو الملابس. أحرص على التعامل مع الحرفيين البسطاء الذين يعيشون في قرى نائية، لأنهم الأكثر حاجة لهذا الدعم، ولذلك أحب أن أكون جزءاً من عملهم. أتعاون حالياً مع السيدات القادمات من غزة والمقيمات في قطر، فنعمل معاً على تصميم عباءات، وهنّ بارعات بالتطريز الفلسطيني. هؤلاء النساء ملهمات جداً، وأحبّ العمل معهن. وأحاول حالياً التواصل مع حرفيين في سورية ولبنان والمغرب، تلك البلدان غنية جدّاً بالحرف التقليدية، وحتى هنا في قطر، أتعاون مع النساء اللاتي يعملن في السدو، فنحاول تقديم أشياء مختلفة عن السدو التقليدي. هدفي هو جعل الجيل الجديد يهتم بالتراث والحرف التقليدية، لأننا إذا لم نحاول تطويرها، فقد تندثر.
ما هي أهم الإنجازات التي حققتها حتى الآن؟ وكيف تقيسين نجاح مشروعك؟
نجاحي ليس مرتبطاً بالربحية بقدر ما هو مرتبط بتوعية الناس بفكرة الاستدامة، لأنني كنت أعلم منذ البداية بأن المردود سيكون محدوداً. لذلك، لم أكن أتوقع الكثير من الناحية الربحية. ما كان يهمني أكثر هو تفاعل الناس واستجابتهم لفكرة الاستدامة.
ما هي خططكِ المستقبلية لتوسيع مشروع "مهفهف" ووصوله إلى جمهور أكبر؟
بالنسبة للمستقبل، أتطلع إلى التعاون مع حرفيين من مختلف البلدان، خصوصاً من العالم العربي. هذه الجذور هي التي تشكل هويتنا، ووطننا غني بالحرف والابتكارات الفنية. أحب أن أمزج بين التراث العربي من مختلف البلدان، كأن أدمج الحرف الفلسطينية بالخليجية، أو السورية بالمغربية. هذا التنوع يثري الفن والحرف ويجعلنا نفتخر بإرثنا. نحن بحاجة للحفاظ على تراثنا وتطويره، بدلاً من النظر دائماً إلى الغرب. هدفنا هو إحياء هذا التراث والاستثمار فيه لينمو ويزدهر أكثر للأجيال المقبلة.
كيف يتفاعل جمهورك مع فكرة الاستدامة في الأزياء؟ وهل تلاحظين زيادة في وعي الناس بأهمية الأزياء الصديقة للبيئة؟
ألاحظ تفاعلاً إيجابياً يُبديه الجمهور عندما أشاركهم خطوات عملية التصميم والتصنيع. يصبحون أكثر اهتماماً عندما يرون كيف يُستخدم النسيج والصبغة الطبيعيين، ويشعرون بأنهم جزء من هذا العمل الإبداعي. الاستدامة لا يجب أن تفرض على أحد كالضرائب، بل هي تجربة فريدة وجميلة يمكن للناس أن يساهموا فيها. الآن، الكثير من الزبائن يعرفون قيمة الأقمشة المصبوغة طبيعياً ويقدرونها، لأنني أشاركهم بكل خطواتها. فالشفافية بالنسبة لي مهمة جدّاً، حين أضع التفاصيل عن كل قطعة، وأشارك عملية التصنيع مع الجمهور عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ما يعزز ثقتهم واهتمامهم.
ما هي الرسالة التي تودين توجيهها لمحبي الموضة المستدامة؟ وكيف يمكنهم المساهمة في دعم هذه الفكرة؟
أود أن أقول إن للمستهلكين دوراً كبيراً في دعم الاستدامة. يجب علينا كمستهلكين أن نطالب بتوفير أقمشة مستدامة في الأسواق، تماماً مثل الأقمشة المصنعة الأخرى. ونطالب بأن يكون هناك مكان مخصص لهذه الأقمشة، وأن يكون متاحاً للجميع. كما ينبغي أن نتعلم كيفية ترميم الأزياء والحفاظ عليها لأنها جزء من الاستدامة. فمثلاً، اليابانيون يحافظون على ممتلكاتهم بإصلاحها، وهذا شيء يمكننا تعلمه وإحياؤه. الأزياء والملابس الطبيعية متوفرة، ويمكن العثور عليها بسهولة عبر الإنترنت. أدعو الجميع إلى دعم هذه الفكرة وتبنيها كجزء من حياتهم اليومية، وليس فقط من خلال شراء ما أنتجه عبر علامتي التجارية "مهفهف"، بل في الحياة عموماً.