خلف الكواليس في "فيسبوك"، يحاول الآلاف من المشرفين حماية المستخدمين من المحتوى المهين والعنيف والمؤذي وغير اللائق، عبر ملاحقة المنشورات التي تنتهك قواعد منصة التواصل الاجتماعي. لكن هذه الوظيفة ليست سهلة على الإطلاق، وتحفر في ممارسيها أثراً عميقاً قد يقلب حياتهم رأساً على عقب، وهذا ما حصل مع تريفين برواني، الذي اتخذ إجراءات قضائية ضد "ميتا"، الشركة الأمّ لـ"فيسبوك".
في اليوم الأول الذي استلم فيه تريفين براوني وظيفته مشرفاً على المحتوى في "فيسبوك"، ومقره في كينيا، شهد انتحار رجل. وقال براوني، الثلاثاء، لموقع هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي): "لم تكن المشكلة في الانتحار، بل في وجود طفل عمره 3 سنوات إلى جانب الرجل وهو يقتل نفسه. كان الطفل على الأرض يلعب بألعابه ولا فكرة لديه عمّا يحصل. استغرق الأمر دقيقتين أو ثلاث دقائق لينتبه إلى أن أمراً غير صائب يحصل ولينادي على والده، ثم بدأ بالبكاء. دخل شخص بالغ أخيراً إلى الغرفة، وأوقف تسجيل الفيديو". وأضاف: "شعرت بالاشمئزاز. كنت أتقيأ لأنني لم أستطع فهم الأسباب التي تدفع الأشخاص إلى ارتكاب مثل هذه الأفعال".
خلال الفترة التي عمل فيها براوني مشرفاً في "فيسبوك" شهد الحوادث الأسوأ، من إساءة معاملة الأطفال، مروراً بالتعذيب، ووصولاً إلى التفجيرات الانتحارية. صحيح أن الارتعاش في صوته وتعاطفه يوحيان بأنه لا يزال يهتم بالآخرين بشدة، كما أشارت "بي بي سي"، لكنه يعتقد أن تجاربه قتلت مشاعره وقضت على جزء من إنسانيته. وأوضح قائلاً: "صرت معتاداً على الموت ومشاهدة الموت. أصبح الأمر عادياً بالنسبة إلي".
في يناير/ كانون الثاني الماضي، أعلن مركز الإشراف الرئيسي على المحتوى في شرق أفريقيا، بإدارة شركة سَما (Sama)، التوقف عن تقديم خدمات مراجعة المحتوى لمنصات التواصل الاجتماعي. والشهر الماضي، سرحت "سَما" 260 مشرفاً على المحتوى، بينهم تريفين براوني، إذ تريد التركيز على تدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي.
وعلّق براوني على هذا القرار قائلاً: "ضحيت بإنسانيتي من أجل هذه الوظيفة. ليس هناك ما هو أغلى من الروح لتقدمه من أجل وظيفة ثم تُطرد بهذه الطريقة". هو قلق على مستقبله، إذ لديه خطط للزواج من خطيبته، كما أن أسرته تعتمد على ما يرسله لها من أموال إلى جنوب أفريقيا.
وشدد على أنه لم يكن ليقبل الوظيفة لو عرف مسبقاً ما تنطوي عليه، لكنه الآن يشعر بأنها ملائمة له وهو يجيدها، علماً أنه حصل على ترقية. يريد الاستمرار في ممارسة عمله، والحصول في الوقت نفسه على دعم نفسي.
براوني واحد من 184 مشرفاً على المحتوى تدعمهم مجموعة فوكسغلوف (Foxglove) في الإجراءات القانونية التي يتخذونها ضد "ميتا"، و"سَما"، والشركة الجديدة التي تتعامل معها "فيسبوك"، وهي "ماجوريل" (Majorel)، ومقرها في لوكسمبورغ.
سعت "ميتا" إلى تخليص نفسها من الدعوى، لكن قراراً صدر الخميس الماضي قضى بإمكانية مقاضاتها بتهمة الطرد غير العادل. ووصفت مديرة مجموعة فوكسغلوف كوري كريدر القرار بأنه "علامة فارقة". وأضافت: "يجب ألا تكون أي شركة تكنولوجيا، مهما بلغت ثروتها، فوق القانون". والقرار المبدئي بحق "سَما" و"فيسبوك" يعني أن عقود المشرفين على المحتوى لا يمكن إنهاؤها، وأن المشرفين على المحتوى يجب أن يستمروا في الحصول على رواتبهم حتى انتهاء القضية. يقول المدققون إنهم سرحوا انتقاماً، بعدما اشتكوا من ظروف العمل وحاولوا تشكيل نقابة. كما يزعمون أنهم تعرضوا للتمييز، ومُنعوا من العمل في "ماجوريل" فقط لأنهم كانوا من موظفي "سما"، وفقاً للوثائق القضائية.
لم تعلق "فيسبوك" و"ماجوريل" على الدعوى القضائية، لكن متحدثاً باسم "سما" أكد لـ"بي بي سي" أن الرواتب التي تقاضاها موظفوها كانت عادلة ومن ضمن الأفضل في كينيا. وأضاف أن الشركة وفرت "خدمات صحية ونفسية مكثفة، شملت حضور متخصصين إلى موقع العمل وخطاً ساخناً واستشارات افتراضية...". وزعمت أن الاتهامات الموجهة إليها غير صحيحة، بدليل أن المشرفين السابقين يقاضونها من أجل الاحتفاظ بوظائفهم.
وفي السياق نفسه، سمحت محكمة في كينيا، في فبراير/ شباط الماضي، بإمكانية مقاضاة "ميتا" من قبل المشرف السابق على المحتوى دانييل موتانغ، بسبب مزاعم تتعلق بظروف العمل السيئة.
تواجه "ميتا" أيضاً إجراءات قانونية في نيروبي بشأن مزاعم بأن خوارزميتها ساهمت في تأجيج انتشار الكراهية والعنف خلال الحرب الأهلية في إثيوبيا. مقدما الدعوة هما الباحثة السابقة في مجال حقوق الإنسان في منظمة العفو الدولية فيسيها تيكلي، ونجل الأستاذ الجامعي ميراج أماري، الذي قتل بعد أسابيع من بث منشورات على "فيسبوك" تحرض على العنف ضده.
أقيمت الدعوى في كينيا، مركز عمليات الإشراف على محتوى المنصة المتعلقة بإثيوبيا. وتتهم الدعوى القضائية شركة ميتا بعدم توفير ما يكفي من المشرفين على المحتوى هناك، وباستخدام خوارزمية تمنح الأولوية للمحتوى الذي يحض على الكراهية، وبالتحرك بصورة أبطأ عند التصدي للأزمات في أفريقيا من أي مكان آخر في العالم.
وتسعى الدعوى المدعومة من معهد كاتيبا، وهي منظمة قانونية مقرها كينيا، إلى إنشاء صندوق قيمته 1.6 مليار دولار لضحايا خطاب الكراهية.