مصير الدراما السورية: هل هو سؤال محق؟

23 ديسمبر 2024
في دمشق بعد سقوط النظام، 10 ديسمبر 2024 (لؤي بشارة/ فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- شهدت الدراما السورية تطورًا منذ الثمانينيات عبر إنتاجات مشتركة، لكن واجهت تحديات الرقابة مما أدى إلى أعمال تفتقر للإبداع وتعتمد على التقاليد القديمة.
- تعاني الدراما من أزمة هوية، حيث أصبحت تركز على الرمزية والإسقاط دون تقديم رؤية متكاملة، مما أفقدها جزءًا من هويتها المحلية وعمقها الواقعي.
- الحاجة إلى حرية التعبير والإبداع أصبحت ملحة لتقديم رؤى صادقة وجريئة تعكس الواقع، مما يعزز الابتكار وقيمة الجمال كقيمة إنسانية عليا.

بعد سقوط نظام الأسد، يقف صناع الدراما التلفزيونية السورية موقف الحائرين والمتسائلين في موضوع مهنتهم التي عانوا الأمرّين في بنائها، لتصل في الثلاث عشرة السنة الماضية إلى مواضع ملتبسة عليهم، حاولوا أن يسايروها، كما في السابق، فهذه الدراما التي ولدت على يدي هيثم حقي، في ثمانينيات القرن المنصرم، كان محبولاً بها في مخيلات العديد من الفنانين والمنتجين السوريين الممنوعين من الإنتاج الإعلامي، فقاموا بتنفيذ مسلسلاتهم في الخارج، مثل "حرب السنوات الأربع" (1980، إنتاج وكتابة داوود شيخاني وإخراج هيثم حقي)، بممثلين سوريين وطاقم عمل خارجي، وما لبثت أن تحولت إلى إنتاج مشترك بين الإمارات العربية المتحدة ودمشق في مسلسل "هجرة القلوب إلى القلوب" (1990، تأليف عبد النبي حجازي وإخراج هيثم حقي)، ومن بعده تأسست شركات محلية للإنتاج الدرامي، ووقفت بعدها الدراما التلفزيونية السورية على قدميها.

إنها سنوات كثيرة من الجهد والعرق والمماحكة مع السلطات التي تحكّمت بكل شاردة وواردة فيها، يصعب اليوم عدم الثقة بمصيرها ومآلها، كما تصعب الأسئلة عن محتواها وشكلها، وكذلك عن مستهلكيها، فهذه الدراما هي بجزئها الأساسي معدّة للتصدير، بما يعني أنها محملة برسائل التثاقف العربي، الجيد منها والسيئ.

اليوم، لا أحد يعلم تماماً مصير هذه الدراما السورية تحديداً، ليس من ناحية كوادرها والأسر التي تعتاش من العمل فيها، بل من ناحية محتواها وشكلها، المنهكين سلفاً من الرقابات المتعددة، والتحكمات العرفية والتقاليدية، والتي بات هؤلاء الصناع مقتنعين بما تمليه عليهم تلك الجهات المتحكمة بعمليتي الصنع والتصدير، إذ بقي الباب موارباً وانتقائياً لفترة طويلة من الزمن، لدرجة الاعتياد على العراقيل، وربما الاستغراب من عدم وجودها أو التخفيف منها. إنها درامة مروضة جيداً، خصوصاً من ناحية وضعها الاقتصادي المغامر، فمن لا يستطيع تصدير مسلسله سيقع في الخسائر، لذلك يبدو الخضوع لبيروقراطيات التصنيف الفني (السياسي والأيديولوجي والأمني) نوعاً من المماحكة الابتزازية التي لا توصل إلّا إلى أعمال عديمة اللون والطعم والرائحة، خصوصاً للمستهلك السوري الذي يعرف الواقع، ويستسلم لمشاهدة حكايات افتراضية بالنسبة له. 

نعم، كانت هناك شجاعات وتذاكيات على هذه السلطات، إلا أنها ظلت تحت مستوى التغيير الفني والتذوقي، وصارت الأعمال تصنف على أقدميتها، فالأقدم هو الأحسن، ما يدل على مسألتين متناقضتين: الأولى هي الجدية الفنية التي صنعت هذه الأعمال في حينها، والثانية هي ميل الجمهور إلى الماضي، وهي عقلية عربية عمومية. هاتان المسألتان وتناقضهما تعبر عن استقرار الجهد الدرامي وعدم مواكبته الفنون وتكنولوجياتها في العالم من جهة، وعدم ملاحظة المجتمع وتحركاته ومواكبتها من جهة ثانية، فتدحرجت الأعمال الى أنواع من الرمزية المخلة والمختلة، تحت شعار الإسقاط على الواقع، وهو الذي لم يكن كافياً لحضور متكامل اقتصادياً وثقافياً بين السكان.

عند هذه النقطة نتوقف ونتأمل، لنسأل هل هناك ضرورة لوجود دراما تلفزيونية محلية، خصوصاً بعد أن وصلت إلى ما وصلت إليه؟ سريعاً ستأتينا أجوبة، مثل لا ليس هناك ضرورة، وهل لا نستطيع العيش من دون دراما تلفزيونية، أو أن الدراما التلفزيونية تفصيل جانبي نستطيع الاستغناء عن تأثيراته المضرة... يمكن أن تكون هناك دراما تلفزيونية ضمن الضوابط التي يقرها "القانون" الذي لم يوضع بعد، وهذا جواب براغماتي، إذ لا يمكن معرفة تأثير هذا "القانون" مسبقاً. سوف ترث المرحلة الحالية في سورية دراما تلفزيونية مهترئة من الرقابات والتحكمات، فهل علينا شد أزرها بإطلاقها محملة بمزيد من الحريات، أم علينا ضبطها تحت سقوف متعددة، بحجة أن كل درامات العالم التلفزيونية تخضع لرقابات متفاوتة، وهذه رقابتنا المعبرة عن خصوصيتنا العتيدة؟

بدأت المسألة برمتها للمطالبة بالحرية، وهذا المفهوم لم يعد خافياً على أحد في العالم إلا على السلطات السورية السابقة. ولا أظنه خافياً على المقبلة. وهنا تبدو الدراما نفسها تحتاج إلى أجوبة حول هذه الحرية، وليس إلى تطمينات خطابية عابرة، فعملية صناعة الدراما عملية تحتاج إلى مجتمع، تقرأه بصدق وإخلاص وجرأة، ثم تقدم له رؤياها، وهذا بالضبط ما تحتاجه الدراما، فالحرية تتضمن هذه القيم، لتستطيع توليد الابتكار والإبداع، وهذه ليست مجرد عملية إعلامية، بل هي اقتصاد وتربية وتذوق، فالجمال قيمة إنسانية عليا لا يجب أن تُعاق عن الوصول إلى المتلقي، بغض النظر عن الرضا السياسي أو الأيديولوجي، وهو ما يعاير صورتنا أمام الآخر لنكون موجودين، وهذا أمر لا يمكن التجاوز عنه، فالحرية مادة أولية أساسية في صناعة المحتوى الاجتماعي الإنساني، وليست خطاباً خيرياً لأخذ العبرة.

الدراما التلفزيونية هي إحدى الطرق لتقديم الذات للآخر الذي هو العالم برمته، إنها ليست تفصيلاً عابراً، والاستغناء عنها هو القدرة على الاستغناء عن الكثير من "التفاصيل" الأخرى التي تشكل في اجتماعها مفهوم الحرية الذي لا يخفى على أحد.

المساهمون