سعت بريطانيا إلى دفن قتلاها في الحرب العالمية الأولى، حيثما كانت تدور المعارك، وكان لفلسطين ما قبل النكبة وما بعدها نصيب من هذه المعارك، ومن هذه المقابر، التي تتبع ما يعرف باسم لجنة مقابر حرب الكومنوِلث، أو لجنة مقابر الحرب الإمبراطورية، بينما باتت المقابر نفسها تعرف باسم مقبرة الإنكليز.
مقبرة الإنكليز وآل جرادة
منذ عام 1923، كان ربيع جرادة يعمل موظفاً مع اللجنة على رعاية مقبرة الإنكليز في بئر السبع، وحراستها، وإدارة شؤونها، لكنه اضطر عام 1948 إلى أن يهجر مدينته ويلجأ إلى قطاع غزة، وهناك واصل عمله مع اللجنة في إدارة ما يعرف لدى العامة بـ"مقبرة الإنكليز" أيضاً، وهما في واقع الأمر مقبرتان، افتتحت الأولى في حي التفاح في شارع صلاح الدين شمال مدينة غزة، وتحديداً في 28 إبريل/ نيسان 1925، تلتها مقبرة أخرى وسط قطاع غزة، وتحديداً بالقرب من دير البلح.
وتسلّم في عام 1958 المهمة عن ربيع، بعد تقاعده عن عمر 65 عاماً، ابنه إبراهيم جرادة، ليتسلمها من بعده ابنه عصام، وأخيراً إبراهيم الحفيد (33 عاماً).
والحكاية كما سردها إبراهيم عصام جرادة، المولود داخل مقبرة الإنكليز كما والده، لـ"العربي الجديد": بدأت عائلتنا بالعمل مع اللجنة من عشرينيات القرن الماضي، من مقبرة الإنكليز في بئر السبع، مع والد جدّي ربيع جرادة، وهي واحدة من المقابر التي كان الجيش البريطاني يدفن قتلاه فيها خلال الحرب العالمية الأولى، لتعذر نقلهم إلى بريطانيا. وفي عام 1948، هاجر جدّي الذي أحمل اسم أسرته إلى غزة، راكبين الجمال، وبعد وصولهم بفترة، تم تكليفه ووالده بإدارة مواقع اللجنة ومقابرها التاريخية وآثارها العسكرية في غزة، خاصة أن جدّي إبراهيم كان يتحدث الإنكليزية بطلاقة، ويملك رخصة قيادة، وكانت نادرة جداً في ذلك الوقت، لذا منحته اللجنة صلاحيات أوسع، جعلته مساهماً في تطوير الأعمال، وإقامة المشاريع التابعة للجنة الكومنولث، ليس في غزة فحسب، بل في مصر وليبيا أيضاً".
ولفت جرادة الحفيد إلى أن العائلة حصلت على مئات شهادات التقدير من بريطانيا، ودول الكومنولث، أو الدول التي قاتل جنودها في صفوف جيش بريطانيا، وسقطوا في الحرب العالمية الأولى على أرض غزة، كما حاز جدّي إبراهيم، الذي توفي عام 2017 أوسمة رفيعة، أبرزها وسام "أم. بي. إيه"، منحته إياه الملكة الراحلة إليزابيث الثانية.
ويتابع إبراهيم الحفيد الحكاية، مشيراً لـ"العربي الجديد"، إلى أن والده تولى المهمة بعد جدّه، خاصة أنه كان عمل مع اللجنة منذ طفولته، بل إنه ولد في منزل اللجنة داخل أراضي المقبرة الإنكليزية، "كما كان الحال بالنسبة لي عام 1991، لذا تولّيت المهمة بعد والدي. وقد حصلت على شهادة ساهمت في تعزيز تثبيت عملي مع اللجنة، وهي بكالوريوس في الهندسة الزراعية، وبكالوريوس المحاسبة التطبيقية، وذلك بهدف إتمام المهمة الصعبة لعائلتي في حماية هذه المواقع التاريخية في غزة وحراستها وتطويرها، ولا سيما مع التحديات التي عاشتها المنطقة على مدار مائة عام".
ويضيف "كنّا نعمل في ظروف صعبة، خصوصاً أن غزة، طيلة العقود الماضية عانت ولا تزال تعاني ظروفاً معقدة، وفي العقدين الأخيرين شهدت نقصاً واضحاً في موارد المياه والكهرباء، وكان الحفاظ على هذه المواقع أمراً شاقاً، ليس كما حال المواقع الأخرى في دول مستقرة، وهذه الظروف الصعبة لاحقتنا حتى عامي 2023 و2024، حين بدأ العدوان، ونحن نشغر المنازل التابعة للجنة داخل مقابر الإنكليز".
ولفت إبراهيم جرادة الحفيد، إلى أنه "منذ أن بدأت الحرب هذه كنّا نتوقع أن تتعرض المقبرة لأضرار، نظراً إلى موقعها الحدودي، ولكونها سبق أن تعرضت لأضرار عام 2008 وعام 2014 وعام 2021، لذا ومع إبلاغ جيش الاحتلال سكان غزة المدينة وشمال القطاع بالتوجه إلى الجنوب، نزحنا".
وشدد جرادة على أنه "منذ وقت نزوحنا في 13 من أكتوبر/ تشرين الأول، لا نعرف طبيعة ما حصل ويحصل في المقابر، لكننا نكاد نجزم أنها تعرضت لأضرار كبيرة، لكونها، كما أسلفت منطقة حدودية، ولا توجد منطقة في غزة لم تتعرض لأضرار".
جزء من تاريخ غزة
بدروه أشار المؤرخ الفلسطيني حسام أبو النصر، ممثل فلسطين في اتحاد المؤرخين العرب، لـ"العربي الجديد" إلى أن ما ورده من معلومات مؤكدة، تفيد بهدم قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي أسوار مقبرة الإنكليز في غزة، وكذلك تجريف مساحات من الأراضي التابعة لها، مع تضرر عدد ليس بالكبير من الشواهد حتى الآن، من دون المس ببنيتها الأساسية، لافتاً إلى أن مقبرة الإنكليز هي جزء من تاريخ غزة ذي الطابع الإنساني.
ونقل المتحدث باسم اللجنة إلى الصحافة الكندية، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أن لجنة مقابر حرب الكومنولث تشعر بالقلق إزاء الأضرار الأخيرة التي لحقت بمقبرة حرب غزة.
تفاصيل المقبرة
تضم المقبرة الأولى قرابة 3691 ضريحاً، بينها 3082 منهم بريطانيون، و263 أسترالياً، و23 نيوزيلندياً، و23 كندياً، و50 هندياً بينهم هندوس ومسلمون، و 36 بولندياً، بالإضافة إلى أعداد صغيرة من جنوب أفريقيا، واليونان، ومصر، وألمانيا، وفرنسا، ويوغوسلافيا، و184 تركياً (عثمانياً) دفنوا في المساحة نفسها، ولكن من دون شواهد توضح أسماءهم، وهويّاتهم، فبلغ عدد مجهولي الهوية فيها 781، فيما تضم المقبرة الثانية في دير بالبلح 733 ضريحاً.