ما زالت صدمة الهجوم المفاجئ الذي تلقته إسرائيل مستمرّة، فالقصف على غزة مستمّر، إلى حد تجاهل وجود أسرى إسرائيليين سقط منهم قتلى أثناء استهداف الطيران الجوي للقطاع المحاصر.
مفاجأة الهجوم والانتصار العسكري لحركة حماس حرّكا نظريات المؤامرة، خصوصاً أن "الفجوة التكنولوجيّة" بين الطرفين عميقة؛ إسرائيل تعتبر رائدة عالمياً في مجال تكنولوجيا التنصت والتجسس، والجدار المحيط بغزّة يفترض أن لا طير يمر من فوقه من دون اصطياده. وضمن هذه المفارقة، تظهر نظريات المؤامرة غير المصدقة لما حصل، فالذعر والخوف وانهيار أسطورة "الدفاع" الإسرائيلي أمام دراجة طائرة شأن لم يتجاوزه الكثيرون.
إحدى نظريات المؤامرة المحيطة بغزة تفترض أن ما حصل تم بالتخطيط مع حماس، والمفاجأة ليست "حقيقية"، إذ من المستحيل أن يحصل ما حصل، وأن يركض الإسرائيليون فراراً في صحراء النقب هكذا أمام أعين العالم، ما يعني أن ما حصل مُدبر، وإسرائيل على علم به، والأمر كله مجرد خدعة سياسية كي يحافظ رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو على منصبه.
هذه المقاربة تحديداً خطورتها أنها تصادر ما حققته المقاومة خلال "طوفان الأقصى"، وتنزع عن المقاومين الفاعليّة، بوصفهم بيادق بيد المخابرات الإسرائيلية التي تم التنسيق معها من أجل هجوم كهذا، والأهم أنها تترك المقاومة متواطئة مع إسرائيل على الانتقام من غزة لأجل نصر مرحلي بسيط. هذه المقاربة تصادر مفهوم المقاومة بأكمله، بوصفه مجرد لعبة استخباراتيّة لمكاسب سياسيّة.
المقاربة السابقة تجلت في فيديو تم تداوله ولم يتم التأكد من صحته، عن مجندة إسرائيليّة، عملت في وحدة المراقبة حول الجدار المحيط بغزة أثناء عملية "كسر الصمت-2014"، وتقول إنه من المستحيل أن يقترب أحد من الجدار من دون رصده، ولطالما استيقظت ليلاً راكضة نحو عملها بسبب حمامة أو لقلق أقترب من الجدار.
تمتد النظرية إلى المستوى الإقليمي، بوصف ما حصل، خارج مطالب اللاعبين الإقليميين، أي تم افتعال حرب بينما السعودية وإيران تتجهان نحو المصالحة، ونظام الأسد يعود إلى الساحة العربيّة، بالتالي، كل ما حصل، يصب في منفعة إسرائيل، التي نسقت هذا الهجوم ضد نفسها، والأهم استفزاز الحليف الأميركي، ليعيد إسرائيل إلى خانة الطفل المدلل، والذي يحتاج دعماً دائماً، ذاك الذي يهدده التطبيع العربيّ وإدارة جو بايدن التي تشكك بقدرته السياسيّة، الشأن الذي تجلى برفض الرئيس الأميركي استقبال نتنياهو في البيت الأبيض حين اندلعت الاحتجاجات في إسرائيل ضد حكومته اليمينية ومشروع الإصلاح القضائي.
ما حصل في غزة أوصل إلى اتهام أوكرانيا بالفساد وبيع أسلحة أميركية إلى حماس، وهناك مقاربة أخرى تقول إن روسيا أعطت الأسلحة الأميركيّة لحماس بعد مصادرتها من الجنود الأوكرانيين. اللافت أن طرفي الصراع العالمي حالياً، أوكرانيا وروسيا، متهمتان بتمويل المقاومة، وهنا مفارقة أخرى.
ما يحصل حسب السردية السابقة هو محاولة لربط ما حدث بإحدى مقاربتي "الشر العالميّ"، الأولى تتمثل بسردية روسيا بوصفها تجتاح أوكرانيا ظلماً ولا بد من قتالها لكونها تدمر العالم (سردية اليسار الأوروبي)، أو أن أوكرانيا فاسدة ولا تستحق الدعم بالسلاح الذي يتسلل إلى أيد غير نظيفة (سرديّة اليمين). زج حماس ضمن هاتين السرديتين يعني أيضاً أن خيار المقاومة لا يرتبط بالشعب الفلسطيني، بل بإرادة صراعات دولية كبرى وسياسات تنعكس في "التمويل"، وهي الكلمة الأكثر إشكالية عند الحديث عن المقاومة، ما يجعلها لاعبا في صراع عالمي لا دور آني لها به سوى الانصياع لإرادة الممول، بصورة أخرى، مصادرة فاعليتها وقدرتها على اتخاذ القرار.
الواضح أن مزاج نظريات المؤامرة يميل نحو عدم التصديق، وتحويل الهزيمة العسكريّة إلى عملية بيد إسرائيل التي لا يصدق أن تتعرض لهجوم كهذا، وهذا بالضبط ما حققته عملية طوفان الأقصى: كسر وهم الاستحالة.