تحرص الفنانة الكويتية منيرة القادري دائماً على البُنية الجمالية لأعمالها، حتى لو كان عملاً تركيبياً يصوّر طيوراً قُتلت جراء التسرب النفطي. وغالباً ما تتمتع أعمال القادري بألوان قوية وتفاصيل معقدة، كما تتجاور فيها العناصر العضوية والاصطناعية.
تستلهم الفنانة أشكالها من الطفرات الموجودة في الطبيعة، مثل التكيفات الغريبة للكائنات الحية، أو الإمكانات التحويلية للهندسة الوراثية. وهي في سبيل ذلك قد تتجاوز الحدود بين الطبيعي والاصطناعي، والبشري وغير البشري، فتتوالد من هذا الهجين أشكالها المتحورة.
هذه الفكرة المباشرة التي تستند إليها أعمال منيرة القادري لا تنفصل أيضاً عن رؤيتها للتحولات، أو التحورات، التي تطرأ على الثقافات البشرية. يكمن جوهر أعمال منيرة القادري في رصد هذه التحولات بالمعنى الحرفي والمجازي، وهو ما يمكن تلمّسه في هذه الأعمال التي يضمها معرضها الحالي في مؤسسة كونستهاوس بريجينز (KUB) في النمسا، والمستمر حتى 2 يوليو/ تموز المقبل. يُقام معرض القادري تحت عنوان "ممرات متحورة"، وهو عنوان يشير إلى معنى التحوّل أو التحوّر والطفرات، ممّا قد يفسّر لنا طبيعة هذه الأشكال الخرافية التي تقدمها.
ولدت القادري في السنغال، ونشأت في الكويت، وغادرت إلى اليابان عندما كانت في السادسة عشرة من عمرها، حيث استقرّت لسنوات حتى حصلت على درجة الدكتوراه. بعد عودتها من اليابان، عاشت الفنانة لبضع سنوات في بيروت، وانتقلت بعدها إلى ألمانيا حيث تعيش وتعمل حالياً متنقّلة بين الكويت وبرلين. بحكم هذه البيئات الثقافية المتنوّعة التي عاشت في كنفها، تنظر الفنانة إلى هويتها الثقافية الهجينة بشيء من الفضول والتأمّل.
تقرّ الفنانة بأن جانباً من تجربتها البصرية تلك يستند إلى هذه التحولات التي لحقت بثقافتها الأم، أو بالأحرى ثقافة الخليج العربي على نحو عام. التحولات الثقافية هي ظاهرة بشرية بلا شك، فأغلب الثقافات، إن لم يكن جميعها، هي أنماط هجينة من ثقافات أخرى غابرة أو معاصرة، غير أن التحوّل الثقافي والاجتماعي الذي طرأ على منطقة الخليج يبدو لافتاً من وجهة نظر الفنانة، فهو تحول حاد ومفاجئ ارتبطت أسبابه بظهور النفط.
لعل الروايات والذكريات التي سمعتها القادري من الآباء والأجداد عن أحوالهم وأساليب حياتهم قبل هذا التحول ترسخ هذا الشعور العميق بالعصف الثقافي لدى الفنانة. كان جدّ الفنانة على سبيل المثال يعمل مُنشداً على مركب لصيد اللؤلؤ، وبظهور النفط اندثرت هذه المهنة وانقلبت حياة الجيل الذي يليه مباشرة رأساً على عقب. كانت الحياة في تلك السنوات أبسط بكثير مما هي عليه الآن فيما يخص العلاقات الاجتماعية، أو حتى ألعاب الصغار ومسامرات الكبار، حيث الشوارع والأزقة والبيوت المتواضعة والعلاقات الدافئة.
لا بد أن لهذه الحكايات أثرها في ظل واقع مغاير تماماً، حيث ناطحات السحب والمدن المضاءة والسيارات الفارهة. كل هذا التحوّل السريع حدث بسبب هذه المادة السوداء المستخرجة من باطن الأرض. يرتبط ظهور النفط أيضاً بهذه الماكينات والمستودعات العملاقة التي ظهرت فجأة، والتي تشبّهها القادري بكائنات فضائية هبطت فجأة من السماء.
تجمع منيرة القادري بين ممارسات مختلفة، من الفيديو والصوت إلى التجهيز والفوتوغرافيا، وهي تعدّ واحدة من الفنانات الخليجيات القلائل اللاتي اقتحمن عالم الممارسات المعاصرة على المستوى الدولي. أعمال القادري حاضرة في الكثير من المؤسسات والمتاحف العالمية والأنشطة الدولية، من تيت غاليري في نيويورك وحتى بينالي البندقية الأخير الذي دعيت للمشاركة فيه كأول فنّانة كويتية تعرض أعمالها في هذا المحفل الدولي المهم. ما يميز القادري أنها تتحدث بلغة تحمل مضامين إنسانية مشتركة، فما تطرحه من قضايا وإشكاليات يتجاوز محيطها المحلي، كما أنها تمتلك الأدوات البصرية التي تمكنها من التعبير عن أطروحاتها ببساطة ومن دون تكلف.
معظم الأشكال التي تبتكرها القادري هي أشكال لا وجود لها على أرض الواقع، بل هي أشكال هجينة ومتحولة. فمن أين تستلهم الفنانة كل هذه التركيبات التي تشبه جيشاً من الكائنات الخرافية؟ إذا تأملنا ألوان هذه الأشكال جيداً، ستُحيلنا إلى لون النفط ومشتقاته، أما هيئتها الغرائبية فهي قريبة الشبه بالتكوينات المجهرية لجزيئاته.
لا يقتصر هذا الاستلهام البصري على العناصر المرتبطة بالنفط فقط، فالفنانة تتعامل مع كل ما يحيط بها كعناصر مؤهلة للتوظيف، لكنه توظيف غير مباشر في أغلب الأحيان. تميل القادري إلى هذه الأشكال الهجينة التي تجمع بين العناصر الميكانيكية والعضوية، كأنها تقوم بدور الطبيعة وتستكشف الإمكانات اللانهائية الي يمكن لها أن تنشأ بفعل هذا التهجين.
أحد الموضوعات البارزة في معرض القادري هو استكشاف الهوية الثقافية والطبيعة المتحولة لبنائها، وتمثل هذه الأشكال الهجينة انعكاساً لرؤيتها تلك. تلفت الفنانة الانتباه في أعمالها كذلك إلى تأثير التكنولوجيا على الطبيعة البشرية، وكيف تُشكّل تصوراتنا وتفاعلاتنا وهويتنا الذاتية. تطرح القادري عبر معرضها أسئلة مهمة حول العواقب المحتملة للتقدم التكنولوجي، والذي يمكن أن يؤدي كما تقول إلى طمس الحدود بين الكيانات العضوية والاصطناعية.