هل سبق وشهدنا انهياراً جماهيريّاً من هول الدهشة، لرؤية علامات التقدّم في العُمر على ملامح شخصية عامة (رجل)؟ هل سبق وانهار عموم الشعب على تجاعيد وجه فنان؟ هل سبق واكتشف أحدهم علامات غضب الرب فوق جسد فنان/ رجل/شخصية عامة؟
يحتاج الأمر بحثاً مطوّلاً، قد يوصلنا إلى تدوينات فردية تائهة في فضاء الإنترنت. تدوينات قليلة لن يتجاوز مضمونها آفاق التحسّر على الشباب، وعلى تغيّر حال الإنسان، وكيف أنّ العُمر غفلة. لكن، لن تتفتّح مواسير الإنترنت إلا بحضور أنثوي. أخيراً، وفي غفلة من الجميع، التهم رواد مواقع التواصل الاجتماعي وجه الفنانة ميرفت أمين. ماسورة الإنترنت انفجرت في وجه المرأة (75 عاماً). كيف حصل هذا؟ ومن استحضر كل تلك الرداءة الدرامية في التعليقات والمنشورات؟
في عام 1969، خرج إلى العلن مصطلح "التمييز بحقّ كبار السنّ". مع الوقت، سار المصطلح جنباً إلى جنب مع مفاهيم مثل "العنصرية" و"التمييز بحق النساء"، وغيرها. ابتدع الكلمة اختصاصي في مشاكل الشيخوخة، أميركي الأصل، اسمه روبير باتلر. جاء المصطلح كمحاولة للإشارة إلى الأحكام المسبقة التي تطاول كبار السنّ، وينتج عنها التمييز والإساءة بحقّهم.
كلّ محاولة تقليل، أو تمييز، أو إطاحة وتحقير بأحد ما، لسبب واحد وحيد وهو تقدّمه في السن، من دون أي أخذ بالاعتبار لقدراته أو رغباته، هو فعل يُمكن أن يُطلق عليه توصيف "مُعاداة الشيخوخة". يطاول هذا التمييز الرجال والنساء على حدّ سواء. لكن، ومن مبدأ أن الشكل الخارجي هو الحَكَمُ المُطلق في تحديد إن كان الشخص مُسنّاً أم لا، فغالباً ما تكون المرأة الأكثر عُرضةً له.
في بودكاست عن "الشيخوخة"، من إنتاج شبكة arte، تشرح الباحثة في العلوم الاجتماعية، جولييت رين، أن الأفكار المسبقة التي أنتجتها السلطة المجتمعيّة، والتي تطاول النساء المُسنّات، أي أنهنّ يشخنَ أبكر من الرجل، وأنّ الأخير يشيخ بشكل أفضل، أعطت الرجال امتيازاً سمح لهم بالاحتفاظ بمكانتهم المهنية والاجتماعية لفترات أطول من النساء. بينما، وبفعل هذه الأحكام، تغرق النساء في شيخوخة مُبكرة مفروضة مجتمعيّاً. يتعرّضنَ لضغط اجتماعي يفرض عليهنّ حثّاً ووعياً مستمرّين إلى أي تفصيل يُشير إلى تقدّمهنّ في السن. غياب هذه الإنذارات (الأفكار المسبقة) في حياة الرجل، أي انعدام تحضيره لاحتماليّة التقدم في السن، يشرح برأي رين ارتفاع معدلات الانتحار عند الرجال ما فوق الـ 75 سنة، والتي تفوق بخمس مرات تلك عند النساء اللواتي تجاوزنَ عتبة الـ 75.
مع خروج صورة وجه ميرفت أمين، خلال تقديمها العزاء برحيل المخرج علي عبد الخالق، جُنّ فضاء الإنترنت مصريّاً وعربياً. دراما ودموع وتحسّر وغضب رباني. خليط عجيب يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاء التأنيث التي تلحق كلمة فنانة. لم يكن التنمّر على وجه ميرفت أمين نتاجا لصدمة اكتشاف تقدّم الإنسان في العُمر. تماماً كما لم يكن انهياراً لرؤية تجاعيد في وجه سيدة جميلة. ميرفت أمين بقوامها وصحتها وشعرها واعتنائها الواضح بنفسها، تُناقض الأعراف المجتمعية لسيدة في مثل سنّها. أين العصا في يد السيدة السبعينية؟ أين فقدان سيطرتها على جسدها؟ وأين عجزها عن السير خطوتين إلى الأمام؟ أين غطاء الرأس وأين هي ميرفت من إكسسوارات الصورة النمطية لسيدة سبعينية؟
ما لاحق وجه ميرفت أمين هو هوس الصورة الواحدة للمرأة السبعينية، الجدّة، التي تجلس في بيتها مُحاطة بالأحفاد، تحكي القصص وتتلو الصلوات وتنتظر. نموذج واحد لا يُريد المجتمع رؤية تنويعات عليه. مسّت ميرفت أمين النموذج عبر التناغم غير المُعتاد بين تقدّمها في السن، وصورتها الكُليّة غير المُكترثة. هي تلعب اللعبة، لعبة الوقت، من دون العبث بالزمن. يُعرّف الباحث في علم الاجتماع، والمُتخصّص في مجال الشيخوخة، ميشال بيللي، التقدّم في العُمر بأنه فعل الخسارة. بدءاً من خسارة القدرات الجسدية، إلى خسارة السرعة، والحركة وخسارة الأقارب والرفاق. التقدّم في العمر، برأيه، عبارة عن خسارات متتالية تُتيح وتفرض التعلّم، أي تعلّم التعامل مع الخسارة بشكل أيسر. لا توجد دراما ولا أسى في كلّ هذا. تعامل ميرفت أمين مع التقدّم في السن، هو تعامل القابلة بخساراتها من دون الحاجة إلى الاستسلام. وهذا ليس تمجيداً لنمط واحد للتقدّم في السن. هذا تمجيد لكل امرأة تختار بملء إرادتها أشكال وأنماط حياتها مع تقدّمها في العُمر.
ما واجهته ميرفت أمين ليس مجرّد ظاهرة على الإنترنت، أو مُجرّد تجمّع لحشود من المتنمّرين المُتستّرين خلف أسماء وهميّة. هذا مزيجٌ من عدائية عامة تجاه كبار السنّ، وكراهية للنساء وتمييز بحقهنّ ومحاولة حصرهنّ في قوالب مجتمعيّة جاهزة. يُمكن الاستماع إلى حلقة برنامج "بكسر التاء" على قناة الجزيرة، بعنوان "كيف تواجه المرأة تقدمها في العمر؟"، لملاحظة تكرار الأفكار النمطية التي تتعرّض لها النساء بمجرّد تجاوزهنّ سنّاً معينة. عبارات موحّدة، محاولات تحجيم وتعييب لأفعالهنّ بمجرّد اختلافها عن النمط السائد.
ليست ميرفت أمين الوحيدة التي عِيب عليها تقدّمها في السن. يُمكن إجراء جولة على التعليقات أسفل منشورات الفنانة المصرية فيفي عبده، لملاحظة تكرار تعييرها بعُمرها، ودعوتها إلى الاعتكاف واحترام سنّها. كما لو أنّ الرقص والفن حرام، وعلى الفنانات بمجرّد تقدمهنّ في العمر الجلوس في بيوتهنّ لطلب الرحمة والغفران.
وهذا خطاب لا نسمعه بحقّ فنانين رجال. رغبة صافية بتحجيم نجاح الفنانات في شبابهنّ. وهذا ليس حكراً على الفنانات في العالم العربي، إذ رأينا انهيارات مشابهة على صور فنانات أجنبيات، ولكن غالباً ما يكون الصوت أعلى في وجه النساء في عالمنا العربي كونهنّ جزءاً من "ملكيّة الذكر وشرفه".