نادي سينما الصم: نافذة تفتح عالماً من الأفلام

15 ديسمبر 2024
في أحد عروض نادي سينما الصم (من النادي)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يجتمع الحاضرون في عمّان لمشاهدة الأفلام بلغة الإشارة، حيث يترجم سيف الدين صالح تفاصيل الفيلم إلى إشارات، مما يضيف بُعداً جديداً للتجربة السينمائية ويعيد إحياء روح السينما الصامتة.
- بدأت فكرة نادي سينما الصم من فيلم "سكون" لدينا ناصر، الذي يبرز قضايا الصم ودمجهم في الفنون، وتسعى منصة "مسموع" لتوفير مساحة للصم للمشاركة في صناعة المحتوى السينمائي.
- يلعب سيف الدين صالح دوراً محورياً في النادي، حيث يختار الإشارات المناسبة لنقل المشاعر، مما يساعد الأعضاء مثل آمنة ودانا على فهم أعمق للحياة والقضايا الثقافية.

في قاعة سينمائية هادئة في العاصمة الأردنية عمّان، يغلفها الظلام إلا من وميض الشاشة الكبيرة، يجلس الحاضرون في صفوف متراصة. عيونهم شاخصة، تلتقط كل تفصيل يتحرك على الشاشة، وكأنها تترجم ما يعجز الصوت عن نقله. لا حديث يقطع الأجواء، ولا ضحكات تتسلل من المقاعد الخلفية، فقط صمت عميق مشحون بالحياة، كأنما يتناغم مع القصة التي تُروى أمامهم.
وعلى جانب شاشة العرض التي قسمت لنصفين، يقف سيف الدين صالح، مترجم لغة الإشارة، بيدين تتحركان بخفة ووضوح، يحوّل كل جملة، كل صرخة، وكل همسة في الفيلم إلى إشارات حيّة. يلتقط الحاضرون كل إيماءة، يتابعونها كما لو أنها مشهد آخر ضمن الفيلم نفسه.
"الترجمة هنا ليست مجرد كلمات تُنقل، إنها روح تُضاف"، يقول سيف بابتسامة تحمل مزيجاً من الفخر والمسؤولية.
مشهد كهذا يعيدنا إلى بدايات السينما الصامتة، حين كانت الصورة وحدها هي اللغة، وحركات الممثلين هي الوسيلة الوحيدة لسرد القصة. في تلك الفترة، لم تكن السينما تعتمد على الصوت لتحكي قصصها، بل على التعبير الجسدي والإيماءات البصرية التي تخاطب العين والقلب في آن واحد.
ففي قاعة العرض، وبينما تتحرك يدا سيف بتناغم مع المشاهد، تبدو لغة الإشارة وكأنها امتداد للفيلم، تضيف بُعداً جديداً وتجربة بصرية مختلفة تماماً، إنها ليست مجرد ترجمة، بل إعادة صياغة، تجعل كل حاضر قادراً على الغوص في عمق القصة. وكأن لغة الإشارة صدى حديث لعصر السينما الصامتة، حيث كانت العين وحدها مفتاح الفهم والتواصل.
تماماً كما تبدو السينما بالنسبة إلى الصم، اعتمدت الأفلام الصامتة على الإبداع في إيصال الرسالة باستخدام أدوات أخرى: لغة الجسد، تعابير الوجه، وزوايا الكاميرا التي تُظهر القصة دون كلمة واحدة. هكذا تلتقي عوالم السينما الصامتة وعروض السينما من أجل الصم، فكلاهما يكرّس قوة الصورة والحركة في نقل المشاعر والتجارب الإنسانية.

نادي سينما الصم... جسر بين العوالم

بدأت الحكاية من فيلم "سكون"، الذي أخرجته الأردنية دينا ناصر. الفيلم يحكي قصة هند، فتاة صماء تواجه قسوة التحرش وتجد عزيمتها في رياضة الكاراتيه، محاولة إعادة بناء ذاتها.
"بالنسبة إلينا، كان (سكون) أكثر من مجرد فيلم. كان نافذة فتحتها على عالم الصم. فخلال عامين من العمل على الفيلم، كنت أعيش تجربة الصم مباشرةً. رأيت كيف يعانون من العزلة عن الفنون بسبب غياب لغة الإشارة في السينما. أدركت أنني أمام مسؤولية أكبر من مجرد تقديم فيلم"، تقول ناصر لـ"العربي الجديد".
ومن خلال التواصل مع أفراد مجتمع الصم في أثناء تصوير الفيلم، اكتشفت ناصر أن السينما ليست مجرد وسيلة ترفيه بالنسبة إليهم؛ إنها أداة تعبير يمكن أن تعيد تشكيل حياتهم.
"الفكرة بدأت كحلم بسيط، لكنها تطورت لتصبح مشروعاً يهدف إلى دمج الصم في الفن والثقافة"، تضيف ناصر.
وبعد إطلاق فيلم "سكون"، شعرت ناصر وزميلتها بتول إبراهيم بأن الصم بحاجة إلى منصة تتيح لهم مساحة خاصة في السينما. وهكذا ولدت فكرة منصة "مسموع". لم تكن المنصة مجرد أداة للترجمة، بل كانت جسراً لإشراك الصم في عملية صناعة المحتوى، ليصبحوا جزءاً فاعلاً وليس مجرد متلقين"، تقول ناصر.
فمن خلال نادي سينما الصم، لا تقتصر التجربة على مشاهدة الأفلام فقط، بل تتسع لتصبح مساحة للتفاعل مع قضايا العالم. أولى العروض شملت أفلاماً مثل "جزائرهم" للمخرجة لينا سويلم، و"فراولة" للمخرجة الفلسطينية عايدة كنعان، و"برتقال من يافا" للمخرج محمد المغني.
"الفكرة لم تكن فقط عرض أفلام مترجمة. أردنا أن تكون التجربة السينمائية وسيلة لفهم أعمق للقضايا الإنسانية، ولإشراك الصم في الحوار العالمي حول هذه القضايا"، تقول ناصر.

الترجمة: فنّ التواصل بلا صوت

يقف سيف الدين صالح، مترجم لغة الإشارة، ركناً أساسياً في تجربة نادي سينما الصم. وقبل كل عرض، يجتمع مع فريق العمل لمشاهدة الفيلم وتحليله، ملتقطاً المشاهد التي تحتاج إلى شرح أعمق، ويختار الإشارات التي يمكن أن تنقل إحساس المشهد بأمانة.
"العمل يبدأ بتحليل الفيلم. يجب أن أفهم كل زاوية، كل حركة للكاميرا، كل تعبير يظهر على وجوه الممثلين، حتى أتمكن من نقل المشاعر بدقة،" يقول سيف.
وفي استوديو خاص، يُسجل الترجمة بلغة الإشارة، حيث تُضاف شاشة جانبية خلال عرض الفيلم. "الترجمة تتجاوز الكلمات. أحياناً، تحتاج أن تعبّر عن صرخة، عن ألم داخلي أو فرح غامر. يجب أن تكون الترجمة جزءاً من الفيلم نفسه، لا عنصراً خارجياً".
يصف سيف التحديات التي يواجهها في أثناء الترجمة: "الفيلم الطويل يحتاج إلى تركيز مستمر. عليك أن تكون حاضراً في كل لحظة، لأن أي تفصيلة قد تفوت، قد تكون هي المفتاح لفهم الفيلم".

آمنة ودانا: السينما نافذة على الحياة

آمنة سعيد، شابة صماء، اعتادت أن ترى الأفلام كأحجية محيرة. "كنت أشاهد الصور تتحرك على الشاشة، أرى وجوهاً تتحدث، مشاهد تتغير، لكن كل شيء بدا وكأنه عالم بعيد عني. كان الأمر أشبه بمشاهدة حلم لا أستطيع فهمه"، تقول آمنة بلغة الإشارة، بينما تنقل يد سيف الدين صالح كلماتها بحيوية تماثل حماستها.

لكن كل ذلك تغيّر منذ أن انضمت إلى نادي سينما الصم قبل فترة. في أحد العروض، جلست آمنة مع أقرانها أمام شاشة العرض، فيما يقف سيف على الجانب، يترجم بحركات يديه كل جملة وكل انفعال في الفيلم.
أما دانا القيسي، التي تهتم بالفن والثقافة، فقد غيّرت أول تجربة لها في النادي نظرتها للسينما بالكامل. تتذكر دانا بحماسة أول فيلم حضرته، وقد تناول القضية الفلسطينية: "كنت أعتقد أن السينما مجرد وسيلة للترفيه. لكن عندما رأيت الفيلم، شعرت كأنه يحكي جزءاً من حياتنا، من معاناتنا، بأسلوب بصري لا يُنسى".

المساهمون