استمع إلى الملخص
- ارتبط ديني بصداقة قوية مع سليمان بن إبراهيم، الذي ساعده في فهم الإسلام والثقافة الجزائرية، وشاركه في تأليف كتب مهمة، وأوصى بدفنه بجوار سليمان في بوسعادة.
- ترك ديني أكثر من 500 لوحة تبرز الحياة الجزائرية، وساهم في نشر الثقافة الإسلامية من خلال كتاباته ورحلة حجه.
كُثر هم المستشرقون الذين أحبوا الشرق، ولكن ذلك لم يغير من تصوراتهم المسبقة، ولا من نتاجاتهم اللاحقة التي تصور الشرق حسياً ودموياً ومكاناً غامضاً مليئاً بالأسرار من قصور الحريم والحمامات العامة، إلى مجالس وقصور الحكم والحلقات الصوفية وحضرات الذكر. كان الكثير من المستشرقين الرحالة يلبسون الزي العربي، ويتخذون أسماء عربية، وبعضهم أعلن الشهادتين وادعى الإسلام وزار الحرمين وتحدث بالعربية، ولكن قلة من هؤلاء من فعل ذلك عن قناعة وإيمان وتخلى طوعاً، وليس احتيالاً، عن اسمه ودينه ولغته ووطنه.
قلة من هؤلاء تغيروا فعلاً وأحبوا الشرق وفهموه جيداً، وكانوا منصفين بحقه وأحياناً تجاوزوا الإنصاف إلى الإعجاب، ومنهم المستشرق الفرنسي ألفونس إيتيان ديني (1861- 1929)، والذي عرف لاحقاً بناصر الدين ديني.
خنفساء تغير حياة ناصر الدين ديني
ولد ألفونس ديني في باريس من عائلة برجوازية، وكان طفلاً منعزلاً لا يهتم بهندامه ويميل للتأمل والرسم، وهو ما لم يوافق عليه والده المحامي محاولاً ثنيه عن مهنة الرسم التي أصر عليها، فدرس في مدرسة الفنون الجميلة في باريس.
ذهب ديني الشاب عام 1884 إلى الجزائر التي كانت مستعمرة فرنسية حينها برفقة صديق يدرس علم الحشرات بحثاً عن حشرة خنفساء نادرة في الصحراء، وكانت السلطات الاستعمارية تشجع هذه الرحلات العلمية الاستشراقية، بموجب سياسة استيطان الفرنسيين في الجزائر.
اكتشف الفنان ديني عالماً مختلفاً عن عالمه الباريسي، عالماً ينعم بالهدوء والدفء والقناعة. اكتشف شمس الصحراء وفضاءها الواسع، خبر علاقات أسرية مختلفة عن مجتمعه الفرنسي، وكان ذلك في مدينة بوسعادة، نسبة للسعادة، الواحة الجميلة تبعد حوالي 250 كلم عن العاصمة الجزائر، والتي كانت المكان الأكثر جذباً للسياح، ولا سيما المستوطنين الفرنسيين.
عاد إيتيان إلى الجزائر مرة ثانية عام 1885 بمنحة ليرسم واحات الأغواط: ورفلة ووداي مزاب والمسيلة وبوسعادة. وقرر الاستقرار نهائياً في بوسعادة، واشترى منزلاً في الحي العربي، حيث لم يكن يسمح للفرنسيين بالعيش هناك، ولكنه استحصل على الموافقة، وعاش في بوسعادة التي لم يغادرها إلا في رحلة حجه، وأيضاً لعرض لوحاته في صالون جمعية الفنون الجميلة أو جمعية الرسامين الفرنسيين في باريس.
تعلم ديني اللغة العربية، واطلع على الإسلام، فقرر أن يدخل فيه وغيّر اسمه من ألفونس إيتيان ديني إلى ناصر الدين ديني، وأعلن ذلك عام 1913 في الجامع الكبير في الجزائر، بحضور مفتي الجزائر.
قوبل إسلامه بحملة اتهامات مشينة من قبل المستشرقين الفرنسيين وبعض أصدقائه الفنانين فرد عليهم: "إن اعتناقي الإسلام لم يكن محض صدفة، لقد كان ثمرة لأربعين سنة من التقصي والأمل والبحث في الدين والتاريخ والمقارنة بين الأديان".
لكن ما السبب بهذا الانقلاب؟
سليمان بن إبراهيم
ارتبط ديني بصداقة مع شاب جزائري إباضي أصوله من منطقة غرداية، هو سليمان بن إبراهيم (1870 -1953) ومقيم في بوسعادة، رافقه في رحلاته الجزائرية، وأيضاً في رحلة حجه، بل حتى إن ديني أوصاه مخاطباً إياه بـ"إلى محبنا وأعز الناس عندنا، وليدنا سليمان بن إبراهيم" أن يدفنه إن مات خارج الجزائر في بلدة بوسعادة، والمفارقة أن ديني توفي في باريس، ونفّذ بن إبراهيم وصيته ودفنه في بوسعادة، والأهم أن سليمان أوصى أن يدفن إلى جوار صاحبه، فكانت صداقة في الحياة والممات.
يقال إن بن إبراهيم أنقذ حياة ديني حيث هاجمه بعض يهود بوسعادة، لأنه رسم بعض الفتيات اليهوديات عاريات، ومن هنا ابتدأت صداقتهما، وهناك لوحتان من هذه اللوحات موجودتان في مخزن "متحف ديني" في مدينة بوسعادة.
لم يكن سليمان مرافقاً عادياً، بل كان يتقن الفرنسية وشاعراً وكاتباً لنصوص يعلق فيها على لوحات ديني، ومنها "حكايات عنترة"، "ربيع القلوب"، "الواحات"، "الحياة العربية" وغيرها. وشارك ديني بتأليف ثلاثة كتب بالفرنسية، منها "حياة محمد رسول الله"، وهي سيرة النبي محمد بالفرنسية كتبها الصديقان عام 1918 للجنود المسلمين في الجيش الفرنسي، بالاعتماد على المصادر العربية، ثم ألفا كتاباً بالفرنسية "الشرق في نظر الغرب: محاولة نقدية"، رداً على انتقادات المستشرقين الفرنسيين على كتابهما السابق، موضحين أخطاء المستشرقين بتناول السيرة النبوية وتشكيل المجتمع الإسلامي.
وبمناسبة ذكر المؤلفات المشتركة بين الصديقين، ولا سيما تلك السابقة على إسلام ديني، يسكت الباحثون عن علاقة زواج ربطته بخضرة التي رسمها ديني، وكتب بن إبراهيم نصاً لها بعنوان "خضرة، راقصة أولاد نايل".
بالإضافة إلى ذلك يتضح أن لسليمان اهتماماً بالنشاط السياسي، حيث سعى لإبطال قرار الوالي العام الفرنسي جان آبيل القاضي باحتلال مدينته ميزاب، تبعد عن العاصمة حوالي 650 كلم، بقوة السلاح سنة 1919، وهذا الاهتمام شارك فيه ديني من خلال تبني شكاوى سكان بوسعادة الجزائريين، ومراسلاته للسلطات الفرنسية لرفع الحكم العسكري عن مدينة بوسعادة.
لا نجد الكثير عن سيرة سليمان، ولعل أفضل ما كتب عنه هو ما أورده صديقة ديني تعليقاً على لوحة رسمها كبورتريه لبن إبراهيم عام 1904: "مقدمة مني إلى صديق العمر سليمان بن إبراهيم، وقد رسمتها بكل عناية بالألوان الجميلة، وهي صورة أريد التعبير فيها عن ملامح شخصية صديقي المزابي القوية ذات الاعتزاز والفخر، وفي الوقت نفسه ما تحمله من إنسانية ورجاحة الإيمان، سليمان بن إبراهيم ولد في بوسعادة، المعين الشخصي لي، وقد صار دليلي الخاص بداية من سنة 1889.
وهو من أصول مزابية، سليمان بن إبراهيم المزابي كان نعم المعين في مسيرتي الفنية، كان رفيقي في تنقلاتي المستمرة لبحوثي، وقد ساعدني على فهم الطبيعة البدوية في الجزائر، وكان له الفضل في دخولي شيئاً فشيئاً الدين الإسلامي، والتعمق في الروحانيات.
تطور الأمر بيننا فكان بين 1898 إلى 1930 الإنجاز الكبير والمتمثل في 8 أعمال مهمة، والتي ألّفتها بمساعدة رفيقي المزابي سليمان بن إبراهيم، وكان المقيد والناسخ لأعمالي الفنية وللعديد من اللوحات".
ترك ديني لوحاته ومنزله وكل ميراثه لصديقه بن إبراهيم، وبعد وفاة الأخير اشترى وجيه محلي المنزل، متنازلاً عنه للحكومة الجزائرية ليصبح متحف ناصر الدين ديني في بوسعادة.
رحلة الحج
شكّلت رحلة حجهما عام 1929 موضوع كتابهما الثالث "الحج الي بيت الله"، والذي رسم ديني غلافه لوحة "الطواف حول الكعبة المشرفة"، وضمنه عدة لوحات مرسومة، حوالي خمسين لوحة، عن رحلة الحج خلال سرد مشاهداتهما في جدة والمدينة المنورة ومكة المكرمة، وانتهاء في بيروت، المرفأ الذي غادرا منه.
كتب عن رحلته للحج: "لقد تركت هذه الرحلة في نفسي انطباعات لم أشعر بما هو أسمى منها في حياتي، فلا أحد في العالم يستطيع أن يعطي فكرة عما شاهدته من جوانب هذه العقيدة الوحدانية من حيث المساواة والأخوة".
لوحات ديني
ترك ديني أكثر من 500 لوحة موزعة في متاحف مختلفة، وبعضها بيع لمجموعات خاصة، فمثلاً خص ديني مدينة بوسعادة بأكثر من 130 لوحة رسم فيها المناظر الطبيعية في واحتها، وبورتريهات لأطفالها ولأبنائها وبناتها وعجائزها من النساء والرجال، مجسداً حياتهم في المنازل والحقول والأسواق، مركزاً على الحياة الدينية، والتقاط الانفعالات الدقيقة لمن يرسمهم بألوان حية حارة مستمدة من بيئتهم.
لقد استطاع ديني تصوير مظاهر الحياة في الصحراء الجزائرية من موقع المنتمي لها لا الغريب عنها.
من أبرز خصائص رسومات ديني هي قدرته الفائقة على التقاط مشاعر شخصياته من الفرح والخوف والتأمل والانهماك، كما نجد في لوحاته عن جامعي المشمش أو الأطفال الذين يتعلمون في الكتاب أو الفتيات اللواتي يرقصن أو اللواتي يلعبن أو العابرين في مستنقع أو العاملين في الواحات أو العابدين على السطوح والمساجد، والذين ينتظرون بزوغ هلال رمضان.
عبر ديني عن أسلوبه بأنه كان يدرس أشخاص لوحاته لأعوام طويلة قبل أن يرسمهم: "كان لزاماً عليّ التغلغل في نفوسهم كي أتمكن من التعبير عنهم بشكل آخر غير الخطوط، وهو ما يشكل الشخصية، لأن التفاعل أمر ضروري، لكي تكون قدراتنا على الإحساس والملاحظة فاعلة إلى أبعد الحدود".
مستشرقون في مكة
كان الكثير من المستشرقين يؤمنون بأنه لا يمكن لهم جلاء غموض الشرق وفهمه بدون زيارة مكة المكرمة والمدينة المنورة اللتين يُمنع على غير المسلمين دخولهما، ولذا كانوا يخفون جنسياتهم ويتخذون أسماء إسلامية مرتدين الثياب العربية.
أول أوروبي زار مكة وكتب عنها هو المستشرق الإيطالي لودفيكو دي فارتيما الذي تسمى بالحاج يونس المصري، مدعياً أنه جندي مملوكي وقد قدم للحجاز بقافلة من دمشق عام 1503 قال: إنها تضم 35 ألف جمل و40 ألف شخص ويرجح أنه كان جاسوساً برتغالياً.
تنكر المستشرق السويسري لويس بوركهارت بصورة حاج ألباني وأقام في مكة والمدينة عام 1814 واتصل بالدولة السعودية مغيراً اسمه إلى إبراهيم بن عبد الله وكتب عدة كتب، منها "رحلة إلى الجزيرة العربية"، "الاتصال بالبدو الوهابيين".
أقام المستشرق الهولندي، سنوك هرخرونيه، في مكة المكرمة عام 1885، وعاش سبعة أشهر في ضيافة طبيب هناك يدعى عبد الغفار، وهو ذات الاسم الذي اتخذه سنوك له بعد إسلامه، وسجل مشاهد مصورة هي الأولى لمكة ومسجدها "الحرام"، وألف كتاب "صفحات من تاريخ مكة"، وبعد فترة من إقامته ثار الشك حول إسلامه ليتم طرده منها.