نجوم الماضي القريب: أغانٍ في صور على "إنستغرام"

04 يونيو 2023
لا يزال عمرو دياب يستعيد في أغانيه نمط التسعينيات (عمرو مراغي / فرانس برس)
+ الخط -

في مشهد تمثيلي يصوّر نزوله في أحد الفنادق الفارهة، تقع عينا المغني اللبناني راغب علامة على إحدى الموظفات. سرعان ما استعر الغرام بينهما على طول أربع دقائق، هي المدة الزمنية للأغنية المصورة "تعاليلي"، من إصدار العام الفائت، ألحان أحمد الزعيم وإخراج زياد خوري. من كلمات المذهب الثاني للأغنية، التي كتبها محمد عاطف، يغني علامة: "حبّك خد قلبي ودوّبني وجنني يا بنتي". وهنا بيت القصيد، إذ إن النجم الجماهيري إبان عقد التسعينيات، صاحب "قلبي عشقها" و"مغرم يا ليل"، بات يغني اليوم وهو يبلغ من العمر 60 عاماً.

ما عدا المتفرقات من تزويقات تواكب العصر، كمؤثرات إلكترونية وسلاسل توافق الأنغام "الأكوردات"، ذات طابع جاز اللاتينو تُنشر بشاعرية هنا وهناك على أوتار الغيتار، تُسمع "تعاليلي" كمحض استعادة، ليس فقط لأغنية التسعينيات التي اشتُهر بها الفنان، وإنما أيضاً لشخصيته الفنية كما اشتهرت حينما كان شاباً، من خلال الإيماءات المعهودة له، ورقصات الغنج المعروفة عنه.

كذلك، فإن إيقاع البلدي المقسوم المبرمج إلكترونياً، كتصفيق أكفّ تحرّض على الرقص، لم يزل يُسمع على حاله كما كانت منذ ثلاثين عاماً. أما غناء علامة باللهجة المصرية، وتفاعله مع كلّ من اللحن والإيقاع، سواء بنبرة الصوت أو لغة الجسد، فمن شأنه أن يعيدنا إلى ماضيه، فلا يبقى لنا من علامات حاضره سوى الشيب الذي اكتسى ذقنه وصدغيه.

نجمة أخرى لبنانية من ذات الحقبة الماضية، ما زالت تنشط على الساحة الفنية وقد تجاوزت سن الخمسين. في أغنيتها المصورة "حفلة" من إنتاج 2022، التي نَظَم كلماتها هاني صارو، ووضع ألحانها أحمد الزعيم، ورُفعت على قناة "يوتيوب" الخاصة بالجهة المنتجة، تستهل نوال الزغبي الغناء ببثّ رسالة نسوية جرت معالجتها داخل الاستوديو بواسطة مؤثرات رقمية، وتداخل عدة مناسيب صوتية.

لعل الغاية ألا تخاطب الأغنية جيلاً سابقاً فحسب، وإنما جيل لاحق بات أكثر جرأة في تلقّفه وتفاعله إزاء تسليط الضوء على مظاهر السطوة والاستبداد اللذين يمارَسان ضد كثير من النساء، وجعلها مرويات تتناقلها وسائط التعبير الفني من غناء وموسيقى ودراما بصرية.

ما إن تتناهى المقدمة الموسيقية، حتى تعود بالأذن إلى الأغنية الدارجة إبان التسعينيات ومطلع الألفية الحالية، تلك الخفيفة الراقصة على إيقاع الدف البلدي والأكورديون الشائع في الموسيقي الشعبية المصرية. مع ذلك، تُبدي "حفلة" بعض مظاهر الفرادة، على الأخص لجهة الشكل العام الذي يتضافر على رسمه كل من الموسيقى وكاميرا الفيديو، كفاصلة رنين الهاتف مثلاً، التي تُحدد قنطرة درامية ستُعيد الأغنية مرة أخرى إلى كوبليه بِحّلة جديدة، وإن بحدود البصري، اعتماداً على سطوع الأضواء واختلاف الأزياء أكثر منه على ائتلافات الألحان.

لعل الأنشط على الساحة الفنية اليوم من بين النجوم القدامى، هو المصري عمرو دياب. لقد بلغ من العمر 61 عاماً، ومع ذلك، لا يزال يطلق الألبوم تلو الألبوم، والأغنية عقب الأخرى. جديده هو "بطمّن عليك" التي اقتصر صدورها على نسخة صوتية رُفعت بداية العام الحالي على قناة "يوتيوب" الخاصة بشركة فودافون، وكتب كلماتها كما وضع ألحانها عزيز الشافعي. تُسمع الأغنية نسجاً على منوال بدأ منذ منتصف التسعينيات. إذّاك، نُظِر إلى دياب الشاب بوصفه نسخة عربية، وإن ظلّ متقدماً بالسن، عن نجم بوب اللاتينو البويرتوريكي ريكي مارتن.

هكذا، ومنذ "قمرين"، مروراً بـ"تملّي معاك"، وحتى وصولاً إلى "بطمّن عليك"، ارتبطت شخصيته الفنية بإيقاع الرومبا، وصوت الغيتار، وضرب الكاخون وخشخشة الكاباسا، وارتبطت أغانيه في الوعي الجمعي لمجايليه، بطقوس الصيف البحرية من شمس ساطعة ورمال ذهبية أذنت حينها ببداية حقبة سياحية في مصر عند منقلب القرن الحادي والعشرين تصدرتها سيناء وشرم الشيخ.

استمرار مشاهير المغنين بالظهور على المسارح، على الرغم من تقدمهم بالسن، ليس بأمر طارئ خارق للعادة. أم كلثوم (1898-1975) ظلت تغنّي إلى أن حال المرض دون ذلك، وظلت تسعى على الدوام إلى مواكبة العصر عبر التعاون مع شعراء وملحنين جدد، وإدخال آلات موسيقية وحلول توزيعية جديدة. أما فيروز، فلم يمض على "ببالي"، آخر ألبوم صدر لها، أزيد من خمس سنوات، وكانت قد بلغت عند صدوره 80 عاماً.

الذي اختلف بالنسبة إلى نجوم الماضي القريب، ممن لا يزالون ينشطون في الوقت الحاضر، هو الوفرة في الوسائل المتاحة على صعيدي الصوت والصورة، بغية مدّهم برونق الشباب المستمر، بحكم أن أغنية اليوم الجماهيرية لم تعد مُنتجاً سمعياً وحسب، وإنما فيديو مصور على الغالب، يرصد عن قرب ملامح الوجه ومدى تناسق القوام، ويتطلّب من الفنان لياقة حركية تجذب عين المستمع قبل أذنه. على صعيد الصوت، ثمة اليوم حلول تكنولوجية تُحسّن من نوعيته إن تراجعت بعامل الزمن. تتسنى لبرمجيات التسجيل الرقمية معالجة الصوت البشري المسجّل بغرض تقويمه إن أصابه نشاز، ومن ثم تجميله بإضافة 
مُحسنات صوتية عليه بصورة صناعية عن طريق الكومبيوتر.

أما على صعيد الصورة، فإن عصر "إنستغرام" قد شرعن أمام الجميع، ولا سيما نجوم الفن والغناء، الفلترة الرقمية، سواء للقطة الثابتة أو المتحركة، فلم يعد يعيب الفنان أن يجري التلاعب بصورته رقمياً لتبدو مفارقة إلى حد بعيد واقعه وحاله. إلى جانب هذا، ثَمّة وعيٌ من قبل فناني اليوم، أيّاً كان جيلهم، إزاء تقدم دور الصورة على الصوت في السوق الفنية. وعليه، بات يولي معظمهم الصحة واللياقة الجسدية العناية والأهمية، وقد لا يتوانى بعضهم عن الاستفادة من التحسينات التي قد تضيفها الجراحة التجميلية.

يبقى السؤال، ما الذي يُضيفه مُغني الأمس من خلاله دوام حضوره ضمن مشهد الغناء الجماهيري اليوم؟ لئن يحافظ نجوم التسعينيات في أغانيهم الراهنة على حلّة التسعينيات ذاتها مع إضفاء القليل الضئيل من صبغات الحاضر، من دون تقديم تجربة جديدة كلياً، ولا إحداث خرق فني سواء لجهة الشكل، المضمون أو الهوية الفنية، فإن حضورهم اليوم ليس إلا بمثابة استعادة لماضيهم، وبالتالي رغبة منهم أو من منتجيهم، أو ربما حاجة إلى الاستثمار في النوستالجيا.

المساهمون