ما زالت إكراهات الواقع السياسي تفرض نفسها على المشهد الإعلامي في الجزائر، إذ لم تخفف السلطات الجزائرية من قبضتها على الإعلام المحلي. وتظلّ النقاشات السياسية في وسائل الإعلام ذات اتجاه واحد، تغيب عنه الرؤى والمواقف المعارضة للسلطة. كما تكثّف أجهزة الدولة من رصد تغطية ومعالجة القنوات الأجنبية للشأن الجزائري. ورغم هذا الواقع، يعلّق الكثير من الصحافيين الآمال على مرحلة ما بعد الانتخابات النيابية، وتشكيل حكومة جديدة، لتحسين وضع الحريات الإعلامية في البلاد، بعد فترة تشدد كبير أبدته السلطات إزاء الإعلام، حيث فرضت حدودًا للنقاشات السياسية.
لكن مجموعة من الوقائع الراهنة تعكس استمرار تشدد السلطات في التعاطي مع الإعلام والمؤسسات الصحافية، وإبقاء مساحات وهوامش الحريات الإعلامية ضمن نطاقات ضيقة، وهو ما يجعل الآمال بهامش أكبر من الحرية، صعب المنال.
تواصل السلطات الجزائرية حبس الصحافي رابح كارش، الموقوف منذ أكثر من شهرين، في منطقة تمنراست جنوبي الجزائر، على خلفية مقالات وتغطيات صحافية لمطالب السكان المحليين نشرها في صحيفته "ليبرتي". كما تلاحق قضائياً الصحافي مصطفى بن جامع، وهو مدير تحرير صحيفة محلية تصدر شرقي الجزائر، منذ أكثر من سنة، نتيجة مواقفه وكتاباته المطالبة بالديمقراطية. وأعيد الأسبوع الماضي اعتقال الصحافيين المعارضين خالد درارني وإحسان القاضي لأكثر من 24 ساعة في مركز للمخابرات، فيما تكرّرت التوقيفات خلال الأسبوع الماضي للكاتب وأستاذ الإعلام عبد العالي رزاقي، على خلفية مداخلاته في وسائل إعلام محلية ودولية حول الانتخابات والوضع السياسي في الجزائر. وتبرز حادثة توقيف رزاقي، رصد السلطات الجزائرية لتغطيات وسائل الإعلام الأجنبية للانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في 12 يونيو/حزيران، وتدخلات الصحافيين في هذا السياق. وهو ما يكشف عن حساسية بالغة تبديها السلطات إزاء أية معالجة لا تتوافق مع الخط الذي تطرحه.
ويأتي في السياق نفسه، قرار السلطات الجزائرية السحب النهائي لاعتماد قناة "فرانس 24" الفرنسية، بسبب طريقة معالجتها للانتخابات النيابية المبكرة الأخيرة، وطبيعة الضيوف الذين استدعتهم لتحليل الحدث الجزائري. في مقابل ذلك، شكّل سماح السلطات الجزائرية لقناة "الجزيرة" بالعمل وفتح مكتب دائم في الجزائر حدثًا لافتاً في تحول علاقة الجزائر بالقناة، بعد عقدين من منعها من العمل في البلاد (منذ عام 1999)، غير أنّ هذا القرار مرّ بفترة تجريب امتدت لأشهر، تجنبت فيها القناة إفراد أيّ تغطية للحراك الشعبي أو استضافة وجوه معارضة "مغضوب عليها" من قبل السلطات الجزائرية، خلال تغطيتها للانتخابات المحلية. وهو ما دفع الكثير من القراءات إلى اعتبار أنّ "تواجد الجزيرة في الجزائر، لا يمكن اعتباره من مؤشرات رغبة السلطات في الانفتاح على الإعلام الدولي، بقدر ما يبقى رهين محاولة استغلال هذا الإعلام في تلميع صورة النظام الجديد في الجزائر"، بحسب ما يعتقده الكاتب والإعلامي محمد طيبي.
ويدخل في هذا السياق، إعلان الناشط البارز في الحراك الشعبي سمير بلعربي، قبل أسبوع، استغرابه الشديد لإلغاء دعوة كانت موجّهة إليه للمشاركة في برنامج على قناة انطلقت حديثاً. ولم يخفِ بلعربي تأكيده أنّ القناة وقعت تحت ضغط المسؤولين لمنع استضافة معارضين، لهم موقف نقدي إزاء السلطة والانتخابات وكامل المسار الانتخابي.
وقبل أسبوع، أقدمت قناة "السلام" المحلية على وقف برنامج "لا للمجاملة"، الذي كان مفتوحًا للنقاش السياسي، بعد استضافتها معارضين وناشطين في الحراك الشعبي، بسبب ضغوط من السلطة التي أبدت انزعاجًا من البرنامج. وتكرس هذا الانزعاج في مطالبة غير معلنة للقناة بعدم إعادة بثّ عدد من حلقات البرنامج، وعدم نشرها على موقع القناة على "يوتيوب".
مجمل هذه المعطيات يدفع الكثير من الإعلاميين والنقابيين حتى، إلى اعتبارها مؤشرات غير إيجابية، ولا تبشر بإمكانية توسع هامش الحريات الإعلامية، أو حدوث تغيير في المشهد. يقول مدير موقع "سبق براس" محمد رابح لـ"العربي الجديد": "لا أتوقع أن تتغير الأمور في المشهد الإعلامي. السلطة ستواصل الرقابة، كما أن وسائل الإعلام ستعزز الرقابة الذاتية، خصوصًا في ظل تراجع المداخيل، على الرغم من أن المرحلة المقبلة ستشهد ظهور مساحات أخرى للجدل بين الأحزاب والكتل النيابية، ونقاشات ضرورية. لكن للأسف، الإعلام في الجزائر غير مؤهّل؛ سواء في تركيبته البنيوية بسبب طبيعة المؤسسات الإعلامية في الجزائر، أو الإمعان في تمييع الإعلام، خصوصاً النصوص التي تضبط عمله، وأيضًا طبيعة السوق الاقتصادية في مجال الإعلانات. نحن أمام بيئة حاضة على إعلام متفسخ، وفيها تضعف كل فرصة وآمال تكريس منظومة إعلامية".
من جانبه، يقول رئيس المجلس الوطني للصحافيين الجزائريين، رياض بوخدشة، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنّه لا يعتقد أنّ "مرحلة ما بعد البرلمان، وتشكيل حكومة الجديدة، سيحدثان تغييرًا إيجابيًا في المشهد الإعلامي". ويضيف "من جانبنا كمجلس وطني للصحافيين، من وجودنا كمنظمة مهنية، نسعى إلى إقناع رئيس الجمهورية بجعل قطاع الإعلام على رأس الاهتمامات المركزية للدولة، لأنّه أصبح رهينة. وأي بلد لا يعرف صحافة حرة ومسؤولة، فهو يسير عكس حركة التاريخ ولن يحقق أي تطور. صوت الجزائر لا يزال مبحوحاً على صعيد التجاذبات الدولية والإقليمية". ويؤكد بوخدشة أنه "رغم ما تخص به السلطات قطاع الإعلام من أغلفة مالية ضخمة، بطريقة مباشرة (ميزانية القطاع) وغير مباشرة (عائدات الإعلانات العمومية)، إلا أنّ هناك عجزاً داخلياً ظاهراً في إطلاق نقاش راقٍ ومسؤول، تنخرط فيه نخب المجتمع، لذلك يتوجب فتح نقاش وطني حول الإعلام ورفع الإكراهات التي تحيط به".