من حق مملكة النرويج أن تزهو بابنها المؤلف المسرحي المبدع هنريك إبسن 1828-1906 فتنصب عشرات التماثيل لتخلد ذاكره في المدن المختلفة وتحول المنازل التي أقام فيها إلى متاحف.
توجد في أوسلو وحدها ثلاثة تماثيل لهنريك إبسن حيث نراه شامخا بتمثال أمام مركز نوبل للسلام وبآخر أمام المسرح الوطني الذي تولى إدارته فترة من الزمن، تحدثوا عن سوء إدارته مما أدى لإفلاس المسرح، وثالث أمام منزله الأخير في أوسلو والذي تحول لمسرح ومتحف خاص.
وبيت إبسن في أوسلو ليس المتحف الوحيد لرائد المسرح الواقعي فهناك متاحف له في المنازل التي سكنها، واحد منها هو بيت طفولته في مدينة شيين والثاني في مزرعة أبيه في فينستوب والثالث في مدينة غريمستاد حيث عمل متدربا في صيدلية. وأمام هذا البيت منحوتة إبسن للفنان النرويجي العبقري غوستاف فيجلاند والذي سنتحدث في عدد قادم عنه وعن منحوتاته التي تزين حديقة فيجلاند بأوسلو.
لم يكتف النرويجيون بتخليد إبسن عبر منحوتات له فقط، بل نُصبت منحوتات تجسد بطلات وأبطال مسرحياته مثل نورا وبيرجنت وهيدا غابلر وغيرهم. كما أنشأ النرويجيون شركة إنتاج لأعمال إبسن بلغتها الأصلية.
لماذا هذه الأهمية لإبسن؟
كتب إبسن 26 مسرحية ورغم مرور أكثر من قرن عليها ما زال الكثير منها يُجسد على مسارح العالم ومع كل عرض لمسرحيات من مسرحياته يتجدد النقاش حول موضوعها ويحتد الجدال حول المحرمات التي تناولتها، بل وما زالت الرقابة في كثير من الدول تشترط قص مشهد هنا أو تغيير هناك. يرصد ستاين إيريك لوند مؤلف سيرة حياة إبسن (هنريك إبسن: سيرة حياة، كل شيء أو لا شيء)، ترجمة زكية خيرهم الشنقيطي، أن "مسرحيات إبسن تعرض أسبوعيا على نحو 120 مسرحا في العالم كما تم إنتاج سبعة أفلام عن مسرحية بيت الدمية". يعدد النقاد أكثر من ستين فيلما سينمائيا عالميا اعتمدت كليا على مسرحيات إبسن وهو الثاني عالميا بعد شكسبير بتحويل أعماله المسرحية إلى أفلام سينمائية.
تحولت معظم شخصيات مسرحيات إبسن لنماذج تٌعتمد لفهم وتصنيف البشر مثل نورا في بيت الدمية المرأة الثائرة التي ترفض أن تبقى خادمة ودمية فيما تعكس هيدا جابلر صورة المرأة القوية البرجوازية بينما يجسد الطبيب ستوكمان في عدو الشعب نموذج الإنسان الشجاع المنادي بالحقيقة في مواجهة مجتمع قائم على الكـذب.
درس المحلل النفسي سيغموند فرويد شخصيات إبسن واستعان بها في شرحه لنظريات التحليل النفسي التي اكتشفها. نقل إبسن المسرح الحديث من الميلودراما واللغة الشعرية إلى الواقعية واللغة النثرية العادية وهذا مشوار قطعه إبسن خلال حياته حيث بدأ بكتابة المسرحيات على الطريقة القديمة، ثم تحول إلى الواقع فكتب أعظم مسرحياته. ولذلك يعتبره دارسو المسرح من أهم كتاب المسرح عبر التاريخ، بل إن بعضهم يراه الأعظم على الإطلاق، يقول جورج برنارد شو: "إن هذا المخبول أهم من شكسبير".
ما زالت مسرحيات إبسن الواقعية، ورغم أنها كتبت في النصف الأخير من القرن الثامن عشر تتحدث إلينا كما لو أنها كتبت اليوم فهو يضع الأصبع على الجرح ويشير بدون مواربة إلى فساد حياتنا، فمعظم مسرحياته تدور حول العائلة وشخصيات تعاني أوضاعا صعبة وتكون مصائرها تراجيدية حيث لا تمتلك فرصة لحياة جديدة لأن ما اقترفوه من آثام كارثي لا يقبل الإصلاح. تناقش مسرحيات إبسن مشكلات أخلاقية تدخل في المحرمات كسفاح القربي والأمراض التناسلية والعلاقات خارج الزواج والقتل الرحيم مما جعل المشاهدين والمسارح والمكتبات ودور النشر ترفضها وتندد بها وتمنعها أحيانا.
واقعية إبسن
كل مسرحية من مسرحياته تحمل لغما أو أكثر، تفجر قضية تتصل بالزيف الاجتماعي فلم تعد المسرحية تتحدث عن الأمجاد الغابرة والأساطير الوطنية والقومية، وباتت مع إبسن تتصل بالحياة اليومية وبالصراعات الأسرية والحياة العامة وتناقش قيم المجتمع وتشكك بها حيث "إن نزع الكذب من حياة الناس سيحرمهم السعادة" كما كتب في مسرحية البطة البرية. رفضت المكتبات بيع مسرحيته "الأشباح" وكتبت بعض الجرائد أن هذا الكتاب يجب ألا يقتنيه مسيحي صالح وبقيت المسرحية ممنوعة من العرض لسنوات ووصفت بأنها عمل قذر ومجرور مفتوح.
لا ينفي إبسن أن مسرحه يغوص في مجارير المجتمع. وكان يكنّ كرهاً شديداً للفرنسي إميل زولا، ويقول إبسن عنه: "إميل زولا يغوص في أسفل المجاري ليستحم بها بينما أنا أغوص لتنظيفها".
اضطر لتغيير خاتمة مسرحية بيت الدمية إرضاء للجمهور الألماني، وحتى اليوم يجتهد المخرجون بخاتمة هذه المسرحية وقد ابتكر مخرج ألماني نهاية لهذا العرض حيث قامت نورا بإطلاق النار على زوجها. كان يتصور شخصياته من لحم ودم ويعيش معها، ووصف ذلك بأنه حين يكتب المسودة الأولى يكون كمن التقى شخصياته برحلة قطار، وفي المسودة الثانية يعيش معهم لمدة شهر في منتجع وبعد المسودة الثالثة يكون عرفهم كما لو أنه عاش معهم طيلة الحياة.
ذات مرة قال لزوجته إن نورا بطلة مسرحيته بيت الدمية جاءت ووضعت يدها على كتفه، سألته سوزانا ماذا كانت ترتدي؟ فأجاب بكل ثقة: كانت تلبس فستانا بسيطا من الصوف أزرق اللون.
هجرة إبسن وعدم التقدير
عاش إبسن في طفولته وشبابه حياة فقيرة بعد أن كانت أسرته تعيش حياة رخاء، إلا أن افلاس والده نقلهم من حال إلى حال، وأضيف للمشكلة الاقتصادية انفصال الوالدين نتيجة الشائعات التي طاولت الأم بأن إبسن من أب آخر. لم يستطع الحصول على شهادة الثانوية العامة وسقط حتى في مادة اللغة النرويجية، ولاحقا عندما منحته جامعة أوبسالا الدكتوراه الفخرية في الفلسفة كان يفضل أن ينادى بلقب الدكتور.
يحكي إبسن عن حاله أنه لم يكن يملك المال لشراء وجبة العشاء ولا يستطيع شراء ملابس لائقة وأحذية مناسبة، ومن هنا يبدو شغفه بارتداء الملابس الفاخرة عندما بات يمتلك الشهرة والمال. كتب إبسن مسرحيته (كاتالينا) في سن العشرين عندما كان يعمل كمتدرب في صيدلية، إلا أن أحدا لم يطبعها حتى تبرع صديقان له بذلك فطبع 250 نسخة منها لم تبع سوى أربعين نسخة والباقي اضطر أن يبيعها كورق تغليف. أصاب الفشل المسرحيات الخمس الأولى التي كتبها إبسن والتي غلبت عليها الروح الرومانسية الوطنية وكانت تعتمد على التاريخ والفلكلور النرويجي.
تكريم متأخر وغير كامل
لاقت معظم مسرحيات إبسن الاستهجان والغضب حين عرضها لأول مرة حتى بعد ما ذاعت شهرته، وربما كان الاستثناء الوحيد هي مسرحية عدو الشعب التي لاقت ترحيبا كبيرا لدى عرضها بسبب انتقادها للسياسيين الذين يبتزون كل من يعارضهم بأنه عدو للشعب. كُرم إبسن بوسام الملك في السويد وكذلك في الدنمارك والنرويج والسلطنة العثمانية، ولكنه لم ينل جائزة نوبل للآداب رغم أن ثالث الفائزين بها عام 1903 هو مواطنه الشاعر بيور بيورنسون وبعض النقاد يعزون ذلك إلى أن نوبل كتب في وصيته أن الجائزة يجب أن تمنح للأدب المثالي في حين أن مسرح إبسن واقعي.
السيدة سوزانا
لم تكن سوزانا زوجته الوحيدة وأم ابنه سيغورد فحسب، بل ملاكه الحارس حيث كرست حياتها من أجله، فكانت تحرص على أن يعمل بشكل منتظم وتجبره على الجلوس لطاولة الكتابة كل يوم بتمام الساعة التاسعة حتى عندما يكون مريضا، لا تسمح له بالشراب كثيرا وتحرص على بقاء المعجبات بعيدات عنه. كانت تشرف على روتينه اليومي حيث يعمل من التاسعة حتى الحادية عشرة، فيترك الكتابة ولو كان في منتصف جملة ثم يرتدي معطفه الأسود وقبعته ومظلة ويمشي ساعة من الزمن ليصل إلى فندق غراند حيث طاولته محجوزة دوما ولا يتكلم مع أحد إلا نادرا، وكان الناس يصطفون لمشاهدته حتى قيل إن ثلاثة أشياء جاذبة للسياحة في النرويج: جبال الثلج وسفن الفايكنغ التي اكُتشفت مؤخرا وهنريك إبسن. كان يقرأ لها ما يكتب وكانت تتدخل أحيانا في النص، فهي قد أصرت على أن تترك نورا في مسرحية بيت الدمية أسرتها وإلا غادرت هي المنزل. قبل زواجه، أنجب إبسن من زميلة له في العمل طفلا لم يعترف به إبسن، ولم يلتق الأب بابنه سوى مرة واحدة حيث أشيع أن الابن عاش متسولا، وطرق ذات مرة بيت أبيه إبسن بعد شهرته وطلب من أبيه المال فمنحه إبسن خمسة شلنات وأوصد الباب في وجهه.
كان إبسن يضيق أحيانا برقابتها وربما عبر عن ذلك في مسرحيته الأخيرة (عندما نستيقظ نحن الموتى)، حيث يختار بطل المسرحية النحات أرنولد روبيك عدم لمس موديله الفني إيرينا التي كانت تقف عارية أمامه رغم حبه لها كي لا يسيء للفن.. وينتبه مؤخرا أنه اختار الفن وهجر الحياة. وربما بدافع تكريس حياته للفن لم ينجب إبسن وسوزانا سوى ولد وحيد وتوقفت المعاشرة الجنسية بينهما بعد ولادة ابنهما الوحيد. رغم ذلك لم يكن إبسن وفيا لزوجته فقد مر بعلاقات عابرة وقصيرة وإن كانت تخلو من الاتصال الجسدي.
المتحف في أوسلو
عاش إبسن في أوسلو سنوات حياته الأخيرة بعدما قضى حوالي 27 عاماً خارج النرويج متنقلاً بين روما وميونخ ودرسدن.
لفظ أنفاسه الأخيرة في منزله الذي صار متحفاً قائلاً كلمة واحدة: "بالعكس".
يتكون المتحف من مسرح صغير تعرض عليه مسرحيات إبسن بالاضافة لمعرض عن حياته وأعماله حيث تشاهد كلها مقسمة إلى مراحل ثلاث: التاريخية الرومانسية والواقعية والواقعية الرمزية. هنا كتب مسرحيته الأخيرة (عندما نستيقظ نحن الموتى) والتي يرى الكثير من النقاد أن إبسن قد ضمنها الكثير من مراجعاته لحياته عبر بطلها النحات أرنولد روبيك. نجد غرفة الكتابة التي كان يقرأ ويكتب فيها كما هي لم تتغير: تماثيل الشيطان فوق المنضدة والكتاب المقدس مفتوحا فوق طاولة السفرة. لم يكن إبسن وزوجته سوزانا يشتريان الأثاث ولكنهما كانا يهتمان كثيرا بشراء اللوحات الفنية. علق إبسن أمام مكتبه لوحة تصور ناقدا شرسا له هو السويدي أوغست سترينبدغ وعنون اللوحة (ثورة الجنون) وصرح بأنه يحتاج إلى نظرات سترينبدغ المجنونة حتى يبدع. تركت زوجته سوزانا مكتب إبسن بعد وفاته على وضعه وأضافت فقط صورة لها وهو ما نراه في زيارتنا للمنزل ــ المتحف.
إبسن والمسرح العربي
وجدتُ أن أقدم المسرحيات المترجمة للعربية لإبسن هي مسرحية (عدو الشعب)، حيث ترجمها عام 1933 إبراهيم رمزي وراجعها خليل مطران ومحمد زكي المهندس وزكي طليمات وصدرت عن وزارة المعارف العمومية في المملكة المصرية آنذاك. ترجمت في مصر أثناء الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي عدة مسرحيات له وهي بيت الدمية والبطة البرية وهما من نشر مكتبة مصر بالفجالة، فيما أصدرت وزارة الثقافة والإرشاد القومي مسرحيات: أعمدة المجتمع، وعندما نستيقظ نحن الموتى، وحورية البحر، وبيرجنت وايولف الصغير التي قدم لها المفكر المصري الراحل عبد الرحمن بدوي بقوله: "إبسن مارد متوحد في صراع دائم مع المجتمع بتقاليده، والناس بنفاقهم وتصنعهم، وقد حارب من خلال كتاباته لنصرة فكره".
اعتبر المفكر النهضوي سلامة موسى في كتابه (هؤلاء علموني) إبسن أحد الذين أثروا في تفكيره التنويري وتحديدا عبر مسرحيته بيت الدمية.
لاحقا، نشرت سلسلة المسرح العالمي الكويتية معظم أعماله، فيما نشر المجلس الأعلى للثقافة في مصر 3 مجلدات تضم مختارات من أعماله ودراسات حول مسرحه بمناسبة المئوية الأولى لوفاته عام 2006. بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة إبسن شارك الشاعر الراحل محمود درويش في فيلم نرويجي بعنوان (هوية الروح) حيث قرأ درويش قصيدتين إحداهما من شعره: قصيدة جندي يحلم بالزنابق البيضاء والثانية قصيدة تيري فيجن من شعر هنريك إبسن.
رحلة إبسن إلى مصر
كتب إبسن مسرحية (بيرجنت) قبل رحلته لمصر بدعوة من الخديوي إسماعيل لحضور افتتاح قناة السويس عام 1869.
والمسرحية تلاحق مصير فتى ريفي فقير، ولكنه كذاب مدع يحلم أن يكون إمبراطور العالم. يهرب الفتى من عالمه ويتنقل عبر البلدان ليصل إلى مصر ويقف أمام تمثال أبي الهول ويسأله: من أنا؟ يجيبه أبو الهول: اختر نفسك.