منذ أيام قليلة، ظهر نجم ريال مدريد السابق رونالدو (الظاهرة طبعًا)، في فيديو اجتاح مواقع التواصل الاجتماعي، وهو برفقة لاعب المنتخب البرازيلي الحالي ريتشارليسون، الذي اخترق شباك كأس العالم 2022 بثلاثة أهداف، أحدها كان أمام المنتخب الصربي في الدور الـ 32. قبل أي شيء آخر، أثنى رونالدو على رقصة "الحمامة" التي يؤديها ريتشارلسون احتفالًا بستجيل الهدف، وأصر المهاجم البرازيلي على تعلم الرقصة من اللاعب المكنى بـ Pombo، أي الحمامة في اللغة البرتغالية.
ليس غريبًا أن يهتم رونالدو الظاهرة برقصة اللاعب ريتشارلسون، على قدر اهتماهه بأدائه المتقن خلال مباريات كأس العالم الحالي، فلرقصات النصر تاريخ طويل في لعبة كرة القدم، وغيرها من الرياضات التي تعتمد على النتائج النهائية، مثل كرة القدم الأميركية وهوكي الجليد. شقت احتفالات الأهداف طريقها إلى كرة القدم منذ سبعينيات القرن المنصرم، وذلك مع بدء البث التلفزيوني الملون لمباريات كأس العالم لأول مرة في التاريخ، ونمو طموح اللاعبين في التحول إلى مشاهير أمام عدسات الكاميرات. لكن الاحتفال الفردي لم يكتسب شعبيته كما نعرفها اليوم إلا بفضل اللاعب الكاميروني روجيه ميلا، الذي لم يغدُ أكبر لاعب سجل هدفًا في كأس العالم فحسب، بل بات أيضًا أول من احتفل بهدفه بشكل فردي ومميز خلال مباراة الكاميرون مع إيطاليا في كأس العالم 1990، وذلك برقصة أداها المهاجم الشرس أمام علم الركنية، بعد كل من الأهداف الأربعة التي سجلها في تلك المباراة.
Richarlison showing Ronaldo how to do the Pombo dance is so wholesome 💛
— B/R Football (@brfootball) December 6, 2022
(via @fifaworldcup_pt)pic.twitter.com/CKpOvCJiP6
منذ ذلك الحين، تنتظر الجماهير احتفال الهدّاف وحيدًا، أو برفقة زملائه، وهو في احتفاله هذا يضع بصمة على الهدف المسجل ويسميه باسمه. يخلع بعض اللاعبين قمصانهم، ثم يقفون جانبًا منتظرين البطاقة الصفراء، أو يتشقلبون مستعرضين مهاراتهم الأكروباتية أمام الجماهير، في حين يصمم بعضهم الآخر أداءات فريدة مستوحاة من لحظات مؤثرة من حياتهم الشخصية، أو من ثقافات البلدان التي يمثلونها؛ يهز بيبيتو طفلًا متخيلًا بين يديه في كأس عالم 1994 احتفالًا بمولود جديد، يشير ميسي إلى السماء وفاءً لذكرى جدته الراحلة، ويرسل سواريز قبلاته الثلاث، في حين يضرب ليفاندوفسكي قبضتيه، ويشحذ آخرون أرض الملعب بركابهم، بينما يؤدي كريستيانو رونالدو حركة "سي" الاستعراضية الخاصة به.
يتنافس اللاعبون على الاحتفال الأجمل والأكثر تأثيرًا على الجماهير، وتتحول رقصاتهم تلك إلى شعار يمثلهم داخل الملعب وخارجه، كما تغدو جزءًا كبيرًا من حملاتهم الدعائية والإعلانية أيضًا. وفي حين يعدل اللاعبون أداءاتهم من وقت إلى آخر خوفًا من تململ الجماهير، يتمسك البرازيليون بتقليد لا يبدو أنه يفقد بريقه مع مرور الزمن؛ رقصة السامبا، إذ ترتبط تلك الرقصة الشهيرة ارتباطًا وثيقًا بكل من الطبقة العاملة وبكرة القدم في البرازيل، ويعتقد أنها باتت طقسًا شائعًا للاحتفال بالأهداف، منذ أن أدى ليو جونيور بعضًا من حركاتها عقب تسجيله الهدف الثالث في مرمى منتخب التانغو الأرجنتيني في إسبانيا عام 1982، ثم باتت شعارًا لكرة القدم البرازيلية مع لاعبين، مثل رونالدينيو ونيمار وباكيتا وفينيسيوس، الذين حرصوا على الاحتفال ببعض من حركاتها الساحرة في كل مرة يسجلون فيها هدفًا، مستعيرين وقتًا ليس قصيرًا من الدقائق التسعين، لعيش اللحظة والاستمتاع بما صنعته أقدامهم.
يرقص اللاعبون البرازيليون خليطًا من السامبا، والميوجينيو التي تعني رقصة الفتى الصغير في البرتغالية، إضافة إلى استلهامهم لبعض من حركات فن الكابويرا، وهو فن قتالي برازيلي يجمع بين عناصر الرقص والموسيقى والقتال والأكروبات. ولا ترتبط السامبا باحتفالات اللاعبين فحسب، بل إنها تدخل في صلب كرة القدم البرازيلية أيضًا، إذ يشرح كارلوس ألبيرتا في وثائقي لصحيفة ذا غارديان عام 2014 أن التشابه بين لعبة كرة القدم على الطريقة البرازيلية ورقصة السامبا كبير جدًا، خاصة من ناحية الإيقاع السريع وحركة الجذع والأقدام، فضلًا عن الارتجال والابتعاد المتعمد عن القواعد والحركات المصممة والميكانيكية. تستطيع كل من كرة القدم والسامبا خلق السعادة من لا شيء أيضًا، يكمل ألبيرتا، وهذا ما يجعلهما كلمتين مترادفتين لدى الشعب البرازيلي على الأقل، خاصة أن كليهما كان منتجًا للطبقة العاملة في البرازيل، ووسيلتها للارتقاء المادي في أوقات حالكة من تاريخ البشرية.
brazilian players dancing to loona's why not after humiliating korea pic.twitter.com/MUA6LdhBni
— mari.fm (@heechuur) December 5, 2022
ومع أن الاحتفال البرازيلي بالهدف بات منتظرًا أكثر من الهدف نفسه أحيانًا، يحاول كثيرون مهاجمة طقوس الكرة البرازيلية تلك باتهامات وإشارات لا تخلو من العنصرية والتمييز، آخرها كان منذ أيام قليلة فقط، حين احتفل المنتخب بأهدافه الأربعة عبر مجموعة متنوعة من رقصات السامبا، بعد تسجيله الأهداف الأربعة في مرمى كوريا الجنوبية، خلال مباراة الفريقين في الدور الـ 16 من بطولة كأس العالم الحالية. قوبل الفريق بوابل من الانتقادات، أحدها وجهه اللاعب الأيرلندي روي كين للاعبي السيليساو، لكن لوكاس باكيتا رد على تلك الانتقادات اللاذعة بالتذكير بقيمة السامبا في لعبة كرة القدم البرازيلية، مؤكدًا أن "الرقص رمز" للشعب البرازيلي بأكمله، وليس إهانة يقصد بها الفريق المقابل.
ليست تلك المرة الأولى التي يُتنقد فيها لاعبو البرازيل، دونًا عن سواهم، لأدائهم احتفالات الهدف. ففي سبتمبر/ أيلول الفائت، اتُهم مهاجم ريال مدريد فينيسيوس جونيور بعدم احترام خصومه، وطلب منه رئيس اتحاد وكلاء كرة القدم الإسبانية بيدرو برافو التوقف عن التحرك كـ "قرد" على الهواء مباشرة. تصرف وصفه كثيرون بالعنصري والمهين بحق اللاعب وإرثه البرازيلي. لم يتوقف فينيسيوس عن الرقص طبعًا، ووعد جماهيره حينها بمزيد من الرقص والفرح، مع أن "سعادة البرازيلي الأسود الناجح في أوروبا هي أمر مزعج لكثيرين"، كما عبّر اللاعب.
تتغافل تلك التعليقات المهينة عن حقيقة أن العنصرية كانت واحدة من أهم أسباب دخول السامبا إلى عالم الكرة، كما يوضح ماريو فيلهو مؤلف كتاب "الأسود في كرة القدم البرازيلية"، وذلك عندما لاحظ اللاعبون ذوو البشرة الملونة أن الحكام يميلون إلى منحهم "الفاول"، لمجرد لمسهم بقية اللاعبين في أوائل الثلاثينيات من القرن المنصرم. لذا، كان عليهم تجنب الملامسات عبر مراوغات بارعة استمدوها من فنون الرقص الآفرو برازيلي، ومن رقصات موسيقى الريغي.
العنصرية كانت واحدة من أهم أسباب دخول السامبا إلى عالم الكرة
يحتفي البرازيليون بإرثهم الطويل عبر الاحتفال بأهدافهم في الملاعب، مانحين لحظات لا تنسى من السعادة لمشجعيهم الظمئين، ومكملين مسيرتهم في الارتقاء بمستوى كرة القدم إلى "الفن الجميل"، حتى وإن هُزموا وغادروا البطولة، كما حصل أخيراً. الأقدام البرازيلية فرحة، والجميع مدعو للرقص.