"تائهو الجنّة" لن يأكلوا "تفّاحاً" يهيم به فاقدُ ذاكرةٍ، بينما الـ"خَدَم" يُنجزون تمرّداً في أروقة ديرٍ، وفي متاهة بلدٍ منذورٍ لقمع وبطشٍ بحماية سلطة سوفييتية. 3 أفلام أوروبية تشترك في فعلٍ سينمائي، وإنْ يختلف أحدها باستخدامه الأسود والأبيض في قراءته تمرّداً شبابياً هادئاً داخل ديرٍ للرهبان (خَدَم)، بينما يُسخِّر الفيلمان الآخران ألواناً شتّى لإضاءة عنف الذات وغضبها وبحثها عن خلاصٍ بعد ضلالٍ قاسٍ، إنْ يحدث هذا في طرقات ومسافات وانقلابات (تائهو الجنّة)، أو بين جدرانٍ وأمكنة وحيّز ضيقٍ (تفّاح).
3 أفلامٍ أوروبية تبتكر صُوراً سينمائية بميزانيات قليلة. فالبهرجة البصرية غائبةٌ، والفذلكة الكتابية غير حاضرةٍ، لأنّ الأهمّ كامنٌ في منح الجسد حرية أكبر لتعبيرات مختلفة، وفي ترك الملامح والنبرات والحركات تقول بعض المخبّأ في مسام النصوص وفضاءاتها الدرامية. 3 أفلامٍ أوروبية تعاين ذوات أفرادٍ مُقيمين على حافة الخراب، وبعضهم يسقط فيه انتحاراً أو تمزّقاً أو ألماً، وتروي فقراتٍ من أحوال بلادٍ محكومةٍ بقسوة سلطة، أو بعنف اجتماع، أو بمخاطر وباء ينال من ذاكرة فردٍ، فيحاول الفرد إعادة تشكيل حياةٍ جديدة، وفقاً لمعايير غير عارفٍ بها سابقاً، تماماً كأفرادٍ آخرين لن ينجحوا جميعهم في تحقيق المبتغى.
التوهان يُصيب 3 شبانٍ، يحاول كلّ واحد منهم تحقيق خلاصٍ له من قسوة واقع، أو من انغلاق أفق ("تائهو الجنّة" لمايس بايننبُر). شابان وشابّة يلتقون معاً في لحظةٍ غير متوقّعة، ويبدأون رحلةً في طرقاتٍ طويلة، ويواجهون تحدّيات تضعهم أمام مرايا ذاتٍ مكسورة، ورغبات محطّمة. لورنزو (يوناس سْمَالْدرز) يتورّط فجأة مع كلوي (تمار فان نانينغ) ويوسف (بلال وهيب)، اللذين يلتقي أحدهما الآخر صدفةً، ويختاران لورنزو وسيارته لنفاذٍ مطلوبٍ من يومياتٍ، مساراتها شائكة وعوائقها معقّدة. والتوهان نفسه يُرافق آريس (آريس سرْفِتاليس) في شوارع وغرفٍ ومحطّات غير عارفٍ بها البتّة، إذْ يفقد ذاكرته إثر تفشّي وباء في مدينته ("تفّاح" لكريستوس نيكوو). ورغم أنّ آريس مُصابٌ بالتوهان لأنّ وباء يتفشّى في مدينته، يُصاب لورنزو وكلوي ويوسف بتوهانٍ مماثل، وإنْ تكن الأوبئة غير متشابهة، فأخطرها متفشٍّ في روح فردٍ أو جماعةٍ أو بيئةٍ أو مكانٍ أو حالةٍ، أو في مسامٍ وانفعالاتٍ.
آريس يريد حياةً، بعد فقدانه ماضيه. والأصدقاء الـ3 يريدون استعادة حياةٍ، وإنْ يصعب ذلك فليحصلوا على حياةٍ أخرى. لكنّ الطرقات إليها مغلقةٌ، والمصائب كثيرة، والموت يُحاصر فرحاً يحصلون على بعضه لوقتٍ. يوسف ينتحر، ولورنزو يتعرّض لعنفٍ مبطّن من شقيقه، سارق أمواله وشخصيّته واستقلاليته، بينما كلوي تحمل جنيناً غير راغبةٍ فيه، لكنّه مصدر دخلٍ ماليّ ريثما تلده، فـ"يشتريه" من يصرف عليها وعليه حالياً.
توهان آريس ينتهي في تشكيل حياةٍ له، غير مهمٍّ معرفة مصيره فيها. الماضي منتهٍ كلّياً، والتلميح القليل بأنّ فقدان ذاكرته "مقصودٌ" غير مؤكّد، فالمسألة كامنةٌ في علاقته بذاته في لحظة الفقدان هذا، وما سيترتّب عليه لاحقاً من مسالك وعيشٍ. توهان يوسف منتهٍ بالموت، وتوهان كلوي ولورنزو يؤدّي بهما إلى تنفيس غضبٍ في أعماق روحيهما، بإطلاق صرخات متتالية في وجهٍ فراغٍ يمتدّ شاسعاً أمامهما.
في سرده توهان آريس وتفاصيل تشييده حياةً جديدة، يستند "تفّاح" (2020، إنتاج مشترك بين اليونان وبولندا وسلوفاكيا، 90 دقيقة) على مسارٍ هادئ رغم ألم الفقدان والضياع، وعلى بساطة حكي وأداء، يحصّنهما تصوير (بارتوس سوينيارسْكي) يتلاعب بألوان الليل والنهار كتلاعبه بعتمة ذاتٍ وروحٍ، وخارجٍ وداخل، مع إظهارٍ دائمٍ لتوتر وارتباك يُصيبان آريس في بحثه عن منفذٍ لخروجٍ آمن إلى شكلٍ آخر لحياة وعيشٍ. التوتر والارتباك حاصلان في "تائهو الجنّة" (2020، هولندا، 85 دقيقة)، فالتصوير (ياسبر ولف) يُركّز عليهما في رسمه متتاليات بصرية لسيرة 3 شبانٍ يحثّون الخطى إلى منافذ معطّلة، وآفاقٍ معطوبة.
توليف "تفّاح" (يورغوس زافاريس)، المعروض للمرّة الأولى عالمياً في برنامج "آفاق"، في الدورة الـ77 (2 ـ 12 سبتمبر/ أيلول 2020) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، يُبسِّط السرد، الدرامي والبصري والجمالي، لقولٍ أكثر هدوءاً عن تحوّل جذريّ ومفاجئ يعاني المرء تداعياته ومخاطره وآثاره، من دون دراية به، ومنتظراً تشكيل عالمٍ آخر له، لعلّه (العالم) يمنحه اختباراً، أو يدفعه إلى صُنع اختبارات. التوتّر والارتباك اللذان يُصيبان ثلاثيّ "تائهو الجنّة" يحتاجان إلى توليفٍ (إيمري روتلينغسْبيرجِر) يتناسق وعمق الخسائر وفداحتها في نفوسٍ شابّة، يُفترض بها أنْ تحيا أوقاتاً وحالاتٍ مختلفة تماماً عمّا يُفرض عليها.
هذه مسائل حاضرةٌ، بشكلٍ أو بآخر، في "خَدَم" (2020، إنتاج تشيكيّ إيرلنديّ رومانيّ سلوفاكيّ مشترك، 80 دقيقة) لإيفان أوستروتشوفسكي، المعروض للمرة الأولى عالمياً في برنامج Encounters، في الدورة الـ70 (20 فبراير/ شباط ـ 1 مارس/ آذار 2020) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي". اشتغالٌ دقيقٌ على لقطات مُصوّرة من جوانب عدّة، بعضها من علٍ كمن يتلصّص على أحداثٍ يصنعها صغارٌ في حربٍ باردة بين معسكرين، يتصارع أحدهما مع الآخر لمزيدٍ من السيطرة على العالم. أحداثٌ تعود إلى ثمانينيات القرن الـ20، وتشيكوسلوفاكيا السابقة تواجه فعلاً ميدانياً للكنيسة الكاثوليكية ضد السلطة القامعة، فتحاصر كهنتها وطلاب "كلية براتيسْلافا للاهوت" بقمعٍ "ناعمٍ"، يصل أحياناً إلى القتل والتنكيل. كهنةٌ يُبْتزّون بسبب أفعال سابقة، وآخرون يُضغط عليهم لفضح خفايا وأسرار. طلاب في مقتبل العمر يواجهون ويتحدّون بصمتٍ، فيُصابون بأعطابٍ تودي بحياة بعضهم. نزاعٌ سياسي غير منعزلٍ عن نزاعات أشرس، تسأل عن العلاقة ـ الفصل بين الروحانيّ والأرضيّ، وبين الأعجوبة والواقع، وبين البطش والتسامح، وبين الصداقة والخراب.
3 أفلام أوروبية حديثة الإنتاج، تكتب بصوُر سينمائية بعض مصائب أناسٍ، يريدون عيشاً رغم خرابٍ حاصل، ويسعون إلى مخرجٍ، يصعب فتحه للنفاذ إلى ما يُظنّ أنّه أفضل.