باتت المنصّات التي تبث برامجها عبر الإنترنت عاملًا محوريًا في الحديث حول المواد الدرامية المقدّمة عالميًا، وبحضور Netflix المهيمنة بعدد إنتاجاتها ووصولها العالمي، تسير شبكات أخرى بخطىً واثقة لتضمن لها مكانًا في الفضاء الافتراضي؛ Hulu هي إحدى هذه المنصّات التي لا تحفل بكثير من الإنتاجات ولكنها تسعى لتقديم قصص مختلفة والتطرق لعوالم فريدة في مسلسلاتها الأصلية التي تنتجها إضافةً لشرائها لحقوق مختلف أعمال الشبكات الأخرى مثل Showtime, HBO.
مسلسل "قصة الأمة"؛ اقتباس تلفزيوني لرواية مارغريت آتوود التي تحمل نفس الاسم وسبق أن عولجت الرواية سينمائيًا في فيلم أعدّ نصه هارولد بنتر عام 1990. تتناول الرواية عالمًا في المستقبل القريب حيث تفقد النساء القدرة على الإنجاب باستثناء قلة صغيرة في ظلّ حكم مركزي لليمين المتطرف الذي يقوم بتوزيع هذه الفئة الخصيبة على رجال الحكم وذوي النفوذ لاستخدامهنّ كأدواتٍ للإنجاب.
رسمت آتوود معالم مجتمعها المتخيل بعناية مقسّمةً النساء إلى طبقات؛ فهناك سيدات المجتمع اللواتي يرتدين الأخضر وهنّ زوجات رجال الحكم، بينما اعتقلت النساء المنجبات واللاتي يستطيعن الإنجاب وتسمى كل منهن "أمَة" في مراكز للتأهيل لتوعيتهن بالخطر المحدق بالبشرية ومهمتهن النبيلة في مواجهة هذا الخطر بكون قدرتهم على الإنجاب هبة إلهية ويجب التصرّف بها وفق نواميس معيّنة.
تتميز هؤلاء النساء بلباسهن الأحمر وتغطية رؤوسهن. تدير هذه المراكز مجموعة من "العمّات" يعتمدن في التدريس على النصوص الدينية لتوضيح المسموحات والممنوعات في العالم الجديد، إضافة لقسم من النساء المهمّشات العاقرات يستعملن للخدمة في المنازل وتدعى كلٌّ منهن "مارثا" في اقتباسٍ للكتاب المقدس.
وفق هذا التقسيم، لم يعد هناك نساء عاملات، كما أصبح الاختلاط محرّمًا مع سلسلة من المحظورات الأخرى، كالمثليّة والقراءة والإجهاض، وفي طليعتها منع أي أمة من الخروج وحدها من دون مرافقة من أمة أخرى، ولا تحتفظ الإماء بأسمائهن بل تُنسب الأمة إلى منزل السيد النبيل التي تقيم عنده، كل هذا يتم بمراقبة جهاز الأمن "العيون" المنتشرين والمتخفّين في كل مكان.
يتمحور المسلسل حول جوون التي تعتقل عند محاولة هروبها مع زوجها وطفلتها خارج "جلعاد"؛ وجلعاد هو اسم الدولة المسيطرة على أجزاء واسعة من الولايات المتحدة الأميركية كما تفترض الرواية. يعتمد أسلوب العرض ثلاثة خطوط زمنية في سرد قصة جوون بعد أن تصبح أوفريد؛ نسبةً لمنزل سيدها، ويتخلل هذا السرد مشاهد فلاشباك لحياتها السابقة مع زوجها، كما نستكشف معايير المجتمع وملامح قوانينه عبر مونولوجاتها التي تروي مرحلة الإعداد في مركز التأهيل وأنواع الطقوس المختلفة مثل الخلاص والمراسم.
"هُوَذَا جَارِيَتِي بِلْهَةُ، ادْخُلْ عَلَيْهَا فَتَلِدَ عَلَى رُكْبَتَيَّ، وَأُرْزَقُ أَنَا أَيْضًا مِنْهَا بَنِينَ" سفر التكوين 30-1
يمثّل هذا النص الديني الذي يحكي قصة زوجة يعقوب شرحًا وافيًا للمراسم التي تتعرض لها الأمة عند سيدها بحضور زوجته. تحصل هذه المراسم كل 14 يومًا وفقاً لخصوبة الأمة، وتبعًا لهذا الغرض لا يهمّ إن كانت الأمة مشوّهة أو مبتورة اليد فتطبّق بحقهنّ أشد العقوبات الجسدية أثناء الإقامة في مراكز التأهيل.
كلّ ما سبق لا يشرح الأحداث المقدّمة على مدار عشر حلقات، بل هذه الظروف التي تحكم القصة، فكثيرًا ما تعرّضت أعمال لعوالم مدهشة ذات طبيعة مختلفة في رؤىً سوداوية للمستقبل، لكنها فشلت في تقديم قصة تحمل من الأحداث والتغيرات النفسية لشخصيّاتها ما يثير اهتمام المشاهدين؛ فينصرف معظمهم ويبقى من أثارت ظروف العالم المتخيّل فضولهم غير عابئين بالشخوص أو القصة بقدر اهتمامهم بشروط العالم نفسه مثل Westworld, American Gods.
لكن The Handmaid's Tale يتقن هذه المعادلة عبر قصة "جوون" التي تدور في فلك الحب والثورة وحرية الاختيار إلى جانب قدرٍ مهول من التطرّف والمغالاة في عزلة هؤلاء النسوة ومدى السادية في التعامل معهم، وهو ما قالت عنه الروائية إن أي حدث مذكور في العمل مهما بلغت غرابته قد حصل حقيقةً في مكان ما ضمن فترة زمنية ما.
تؤدي إليزابيث موس دور البطولة الرئيسية في العمل؛ وهي ليست وجهًا سينمائيًا، لكنّ مسيرتها التلفزيونية تحوي ستة ترشيحات لجائزة الإيمي كأفضل ممثلة عن دورها في المسلسل الشهير. Mad Men كما عرض الموسم الثاني من مسلسلها الأسترالي Top of The Lake في مهرجان كان هذا العام. ويلاحظ وجود أسماء إخراجية جديدة قادمة من مجال التصوير الفوتوغرافي؛ ما أعطى الإخراج جمالية للأماكن والديكورات الحديثة التي تدور فيها قصة أقرب للقرون الوسطى.
انتقل العمل من مادة الرواية الخام بسلاسة بعد منتصف الموسم، ووسع خطوط قصصه لتشمل علاقة الدولة الدينية بدول الجوار، وأضاف لقضيته التي تركز على المرأة مأساة اللاجئين أيضًا، منشئًا حبكات فرعية لبعض شخصياته، كزوجة السيّد وسائقه، مفردًا لكلّ منهما حلقة خاصة بهدف التعريف عن مراحل انتقال الحكم الديمقراطي إلى النزعة المتشددة.
التغيير الآخر يميل لكونه سلبيًا؛ فكان عصيًّا على منتجي المسلسل الالتزام بشخصيات ذات بشرة بيضاء. حسب الأصل الأدبي، تم إعادة توطين الملونين وهم غير مشمولين بهذه العوامل، لكن طرح ذلك تلفزيونيًا كان ليشتت القضية النسوية التي هي لبّ العمل وحرفه نحو قضية أخرى، لكن تجاهل الأمر كليًا صنع خاصرة رخوة في حبكة العمل؛ فنرى شخصيّات ملونة على امتداد السلّم الاجتماعي من دون تمييز خاص، ليكون ظهور الملونين مقحمًا من عصرنا وغير منطقيّ بالنسبة لثيمة العمل السوداوية.
شهد عدد من الولايات المتحدة الأميركية اعتصامات لمنظمات نسوية، ارتدت فيها الناشطات اللباس الخاص بالإماء في الرواية اعتراضًا على بعض القوانين التي تتعلق بالإجهاض والنسب إلى غيرها من بعض القرارات التي يسعى الجمهوريون لتمريرها ما يدلل على شعبية العمل، كما نالت حلقاته تقديرًا من النقاد وتقييمًا يتراوح بين 9 و10 ساعد على حصوله الأداءات القوية من كادر العمل والإخراج المميز الذي يركز على انفعالات الشخصيات ومنح المشاهد زاوية رؤية وكأنه حاضر في المشهد؛ كما في مشهد إعدام إحدى الفتيات (مارثا) بتهمة المثليّة أمام صديقتها "الأمة" المقيّدة في عربة النقل، فالمشهد مصوّر من العربة والحدث يراه المشاهد كما تراه المقيّدة ليتشاركا معًا شعور العجز.
طرحت Hulu أول ثلاث حلقات دفعةً واحدة لإعطاء المشاهد صورة كافية عن العمل في أبريل وتم تجديده لموسم آخر لم تتضح معالمه بعد إن كان سيستعرض قصة أمة أخرى أم سيكمل قصّة جوون التي تركها في الظلام قائلةً "قد تكون النهاية أو بداية جديدة" ليترك الجمهور حائرًا إن كان سيكمل قصتها كما بقي في الفصل الأخير من الرواية أم سيطالها التغيير أيضًا.