تواجه وسائل الإعلام في لبنان أزمة اقتصاديّة حادّة ظهرت ملامحها قبل نحو سبع سنوات، وبلغت ذروتها مع انطلاق انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لأسباب كثيرة، أبرزها حلول الخيارات التقنية محل وسائل الإعلام على اختلافها، سواء المرئية أو المكتوبة أو المسموعة، بعدما باتت الأخبار تصل إلى المواطن عبر تطبيقات الهواتف المحمولة، وفق ما يقول رئيس مجلس إدارة "المؤسسة اللبنانية للإرسال إنترناسيونال" LBCI، بيار الضاهر، لـ "العربي الجديد".
ويرى الضاهر أن "ما تعيشه وسائل الإعلام اليوم يرتبط بالوضع الاقتصادي الراهن في لبنان، لكن هذا السبب آنيّ، على اعتبار أن الأزمة قائمة منذ سنين ماضية مع ثورة وسائل التواصل الاجتماعي والتطور التكنولوجي".
لكن مدير عمليات الأخبار في قناة "إم تي في" mtv، جورج عيد، فيعزي سبب الأزمة الأول إلى الشحّ في السيولة وتداعيات الوضع الاقتصادي الذي لا يستثني أي مجال أو مرفق ويطاول المعلنين، لذا "فالإجراءات التي تعتمدها الشركات من تقليصٍ للنفقات وصرف موظفين تصل إلى دائرتها الإعلانية، ما ينعكس سلباً وتلقائياً على وسائل الإعلام"، وفق ما يقول لـ "العربي الجديد".
وفي السياق نفسه، يشير مدير عام شركة الإحصاءات "ستاتيستك ليبانون"، ربيع الهبر، لـ "العربي الجديد"، إلى أنّ "تراجع سوق الإعلانات وصل إلى 85 في المائة، خلال الأسابيع القليلة الماضية". ويلفت إلى أنّ "أزمة وسائل الإعلام ليست جديدة، إذ تشهد انسحاب المعلنين تدريجياً قبل أن ينهار الصرف الإعلاني بشكلٍ خطير، بعدما كان الإنفاق الدعائي يصل إلى 80 مليون دولار تقريباً". ويعتبر أنّ "غياب المعلنين التقليديين، وعلى رأسهم المصارف، ساهم في ضرب وسائل الإعلام المرئية اقتصادياً، بالإضافة إلى لجوء العدد الأكبر من هذه الشركات إلى التمويل البديل، عبر تنمية نشاطهم التجاري، على سبيل المثال، باستخدام إعلانات (غوغل) ومواقع التواصل الاجتماعي".
ولا يستبعد مراقبون أيضاً تأثير تراجع التمويل السياسي على أداء المؤسسات الإعلامية، ولا سيما الخارجي منه الذي غاب تماماً عن الساحة الإعلامية اللبنانية مقارنة بحقبات سابقة، فضلاً عن العامل الراهن المتمثل في وقف عرض البرامج الترفيهية والفنية واستبدالها بالمحتوى السياسي.
هذه الأسباب كلّها دفعت القنوات المحلية إلى اتّخاذ اجراءات قاسيةٍ طاولت العاملين فيها بعشرين إلى خمسين في المائة من رواتبهم تقريباً، مع لجوء العدد الأكبر منها إلى الاستغناء عن خدمات إعلاميين وصحافيين وموظفين فاقَ عددهم الخمسين، بحسب معلومات "العربي الجديد" التي تؤكد أنّ "الرقم إلى ارتفاع قريباً".
الإجراءات امتدّت أيضاً إلى "مجانية المشاهدة"؛ قناة "ال بي سي آي" أبلغت مشاهديها بداية الأسبوع أنها ستنتقل إلى البث المشفّر في وقتٍ قريبٍ، تماماً كما فعلت زميلتها "الجديد" التي أوضحت لمتابعيها الخطوات المطلوبة للاشتراك في القناة. الإجراء ليس الأول على هذا الصعيد بالنسبة إلى القناتين المذكورتين، إذ حوّلت كلّ منهما موقعها الإلكتروني إلى اشتراك شهري أو سنوي يضمن توفير خدمتي البث المباشر و"في أو دي" أي المشاهدة عند الطلب، لقاء باقة تبدأ بـ 4.99 دولارات في الشهر إلى 54.99 دولاراً في السنة.
ويوضح رئيس مجلس إدارة "المؤسسة اللبنانية للإرسال إنترناسيونال" لـ "العربي الجديد" أنّ "قرار التشفير ليس مرتبطاً بالأزمة الاقتصادية الراهنة، واتّخِذَ قبل ثلاث سنوات مع شركة (كايبل فيجن)، وسيدخل حيز التنفيذ قريباً، وهي خطوة لا مهرب منها، على اعتبار أنّ غالبية اللبنانيين يدفعون في الأساس لأصحاب الكابلات في حين لم تكن القنوات التلفزيونية تنال حصتها، وهي اليوم ستحصل على حقها من دون أن يتغيّرَ أي شيء على المشاهد"، مؤكداً أنّ هذه الخطوة لن تؤثر على نسب المشاهدة.
ويشير الضاهر إلى أن القناة "أوقفت عرض قسم كبير من البرامج الترفيهية، ما يخفف من الكلفة الإجمالية التي عادة ما تكون الأكبر على القناة، وبقيت البرامج الإخبارية"، مشدداً على أنّ الإدارة لم تتخذ القرار بفصل موظفين، إنّما لم تُجدّد للعقود المنتهية، وعمدت إلى ايقاف بث قناة "إل دي سي" مطلع السنة، وبالتالي لم تجدد عقود العاملين فيها، بالإضافة إلى المرتبطين بالإنتاج الذين انتهت عقودهم من دون تجديدها.
خطوة التشفير هذه لن تلجأ اليها قناة "إم تي في" في الوقت الراهن، إذ يعتبر الإعلامي جورج عيد أنّ توقيت هكذا إجراء خاطئ وغير مناسب، "لأن اللبناني يعجز اليوم عن تأمين أبسط احتياجاته من مأكل ومشرب، ولا يمكن أن نحمّله عبء دفع ولو مبلغ صغير لمشاهدة القناة في الوقت الذي يمكنه اللجوء أيضاً إلى وسائل أخرى تقدم له خدمات واسعة، مثل منصة بث المحتوى الترفيهي والأفلام عبر الإنترنت (نتفليكس)".
ويكشف لـ "العربي الجديد" أن القناة اعتمدت "عصر النفقات بشكل كبير، وتخلت عن بعض المواهب الموجودة ولو بشكل ظرفي"، ويرى أنّ الإجراءات هذه مؤقتة ريثما تتضح الصورة أكثر على صعيد البلد.
من جهته، يستبعد وزير الإعلام اللبناني السابق (في حكومة الرئيس سعد الحريري من ديسمبر/كانون الأول 2016 ولغاية يناير/كانون الثاني 2019)، ملحم الرياشي، أن تؤدي الإجراءات التي تتخذ، ومنها التشفير، إلى انتشال وسائل الإعلام من أزمتها، خصوصاً أن المشكلة اليوم تطاول القطاعات كافة. ويرى، في حديثه إلى "العربي الجديد"، أنّ الحلّ موجود في إدراج الأمانة العامة لمجلس الوزراء الذي وضعه خلال فترة توليه الوزارة، ويتمثل في وجود نقابة محررين حديثة وقانون جديد لها يحمي الإعلاميين، وكذلك بالنسبة إلى نقابة الصحافة حتى تحمي حقوق وسائل الإعلام، وتنعش هذا القطاع بواسطة علاقاتها العربية والإقليمية والدولية، و"في هذه الحالة تأتي المساعدات والأموال إلى لبنان بواسطة النقابة، الأمر الذي يفك رهن وسائل الإعلام للدول أو حتى للأشخاص والسياسيين".
ومن الحلول، برأي الرياشي، اعتماد امتحان الكفاءة في تلفزيون لبنان الرسمي الذي كان من الممكن أن يتحوَّل مركزه في الحازمية إلى دار إنتاج تجذب العرب والعالم وتعيد الحياة إلى هذا القطاع.
في المقابل، ورداً على ما يُشاع عن منح المصارف قروضاً ميسَّرة إلى المحطات التلفزيونية مع بداية عهد رئيس الجمهورية اللبناني ميشال عون عام 2016، ثم التهديد برفع الفائدة بعد دعم وسائل الإعلام المرئية للتظاهرات القائمة في لبنان منذ أكثر من مائة يوم، تنفي أوساط موثوقة في "مصرف لبنان المركزي" هذا الكلام، وتضع القروض التي تحصل عليها القنوات المحلية ضمن القروض التي تعطى لأي شركة وبالإجراءات نفسها، مع فارق أن وسائل الإعلام المرئية تحصل على القروض نظراً إلى الحسابات الجارية التي تمتلكها في المصارف التي تتعامل معها، وغالباً ما تجمعها معهم علاقة إعلانات، بمعنى أن كبرى وسائل الإعلام تأخذ المال الذي تحتاجه وتدفع لاحقاً أو مقابل إعلان تضعه على شاشتها.
وتؤكد الأوساط نفسها أن القنوات التلفزيونية تعتمد في أرباحها على الاشتراكات والإعلانات، وعلى رأسها المصارف، التي تلجأ إليها للتسويق التجاري، مع العلم أنّ عدداً من وسائل الإعلام سواء المكتوبة أو المرئية تورّطت بحجم القروض والحسابات الكبيرة التي لم تتمكن من إغلاقها فأقفلت هي أبوابها.
منذ أشهر، يواجه لبنان شحاً في السيولة مع ارتفاع مستمر في أسعار المواد الأساسية وفرض المصارف إجراءات مشددة على العمليات النقدية وسحب الدولار. وتضاعفت نسبة التضخم بين شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني، وفق تقرير بنك بلوم للاستثمار، بالتزامن مع خسارة الليرة اللبنانية نحو ثلث قيمتها أمام الدولار في السوق الموازية.