رفض الجنرال عبد الفتاح السيسي إسقاط غرامات مالية فرضتها وزارة الري المصرية ضد مزارعين قاموا بزراعة محصول الأرز خارج نطاق المساحات التي قررتها الوزارة سابقًا، واعتبره تصرفا خطيرا وتجاوزا في حق مياه شعب مصر، وساوى بين مزارعي الأرز المصريين وبين الحكومة الإثيوبية التي تبني سد النهضة بسعة 74 مليار متر مكعب، في تهديد حقوق مصر المائية.
لم تكن المناسبة للحديث عن غرامات الأرز ولا عن سد النهضة، وإنما كان حفل افتتاح مشروع الاستزراع السمكي ببركة غليون بمحافظة كفر الشيخ، يوم 18 نوفمبر/تشرين الثاني، حيث هاجم السيسي وقتها مزارعي الأرز في جملة اعتراضية ليس لها علاقة بحديثه قبلها عن مشروع الأسماك ولا بعدها عن الأسماك أيضًا.
لن أتعرض هنا إلى تداعيات فشل المفاوضات على مسارات أزمة سد النهضة، ولا إلى مسؤولية السيسي عن تعقيد الأزمة وتهديد حصة مصر التاريخية من مياه النيل، ولكني أفند في هذا المقال اتهام السيسي محصول الأرز بتهديد أمن مصر المائي، بإلقاء الضوء على بعض الحقائق العلمية حول القيمة الاقتصادية لمحصول الأرز المصري باعتباره ثاني أهم المحاصيل الاستراتيجية بعد محصول القمح وبعد تخريب محصول القطن، وكذلك أهميته للأراضي الزراعية المصرية ومكانته العالمية في أسواق الأرز الدولية، وحجم استهلاكه المياه بالمقارنة مع غيره من المحاصيل المصرية.
ليست الأولى
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتجنى فيها السيسي على محصول الأرز المصري، وكلما تأزمت مفاوضات سد النهضة جعله السيسي الشماعة التي يعلق عليها فشله في حل الأزمة، ففي 30 من يوليو/تموز 2016، وضع مستشار وكالة الفضاء الروسية في مصر النظام في حرج عندما كشف عن صور القمر الصناعي الروسي تفيد أن إثيوبيا قد زادت سعة خزان سد النهضة من 74 مليار متر مكعب إلى 90 مليارا، وأنه يرسل الصور إلى مجلس الوزراء بصفة دورية منذ بداية 2015 ولكن دون استجابة.
بعدها مباشرة أعلن موقع رئاسة الجمهورية على شبكة التواصل الاجتماعي عن اجتماع السيسي برئيس مجلس الوزراء ووزيري الزراعة والري وتحديد مساحات زراعة الأرز وفرض الغرامات على المخالفين.
وبعد يومين من الاجتماع نشرت وسائل الإعلام "خطة الحكومة لتخفيض مساحات الأرز لتصل إلى 700 ألف فدان" بدلاً من 1.1 مليون فدان التي أعلنتها وزارة الري سابقًا، بخفض 28%، وقال وزير الري إن السيسي يؤيد تغليظ العقوبات على زراعات الأرز المخالفة لأنها تهدد الأمن المائي لمصر، بحسب جريدة المصري اليوم.
القيمة والمكانة
الأرز ملك المائدة المصرية، وهو الغذاء الرئيس لنحو 80% من سكان مصر، وهو بديل رغيف الخبز ورديفه، وهو القطب الشمالي في محور الزراعة، ويشغل نحو ثُلث مساحة المحاصيل الصيفية، كما أن قصب السكر هو قطبها الجنوبي، بحسب تصوير العالم المصري جمال حمدان، وهو أنجح محصول غذائي في مصر على الإطلاق، وتكتفي منه ذاتيًا ويفيض نسبة للتصدير بلغت 48% من جملة الإنتاج في عام 2011.
وهو قاعدة أساسية في بنيان الاقتصاد القومي، إذ بلغ اﻠﻣﺭﺗﺑﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ في ﺍﻟﺻﺎﺩﺭﺍﺕ ﺍﻟﺯﺭﺍﻋﻳﺔ ﺑﻧﺣﻭ 32% من إجمالي قيمة هذه ﺍﻟﺻﺎﺩﺭﺍﺕ ﺧﻼﻝ ﺍﻟﻔﺗﺭﺓ من 2009 إلى 2012، وتربعت مصر على عرش الإنتاجية العالمية سنوات طويلة ﺑﻣﺗﻭﺳﻁ ﺇﻧﺗﺎﺟﻳﻪ 4.2 أﻁنان ﻟﻠﻔﺩﺍﻥ الواحد.
والأرز المصري من الطراز قصير الحبة عالي الجودة ومرغوب في أسواق الأرز الدولية، ويتجاوز سعره الألف دولار للطن، والمتاح منه لا يتجاوز 5 ملايين طن، تتنافس عليها مصر والولايات المتحدة وأستراليا، وكان نصيب مصر منها 20%، وربما يفسر هذا التنافس محاربة يوسف والي وزير الزراعة في عهد المخلوع مبارك ومن بعده الجنرال السيسي هذا المحصول الاستراتيجي، لصالح أميركا التي ورثت حصة مصر في السوق بعد خروجها في عهد السيسي.
افتراء
وبالرغم من حرية الزراعة وغياب الدورة الزراعية الملزمة، يحارب السيسي زراعة الأرز بحجة تهديد الأمن المائي للشعب المصري وهو محض افتراء، ولا سيما أن خبراء مركز البحوث الزراعية قد استنبطوا قبل سنوات سلالات أرز مصرية خالصة توفر 30% من مياه الري وعمرها في الحقل 125 يوماً يوم بدلا من 160 يوماً للسلالات القديمة، ولا يحتاج الفدان إلى أكثر من 5 آلاف متر مكعب بدلاً من 7 آلاف في الماضي.
بالرغم من أن استهلاك الأرز المفترى عليه من المياه في حدود 5 ملايين متر مكعب، تتجاوز إنتاجيته 4 أطنان للفدان، ويمكث في الأرض 125 يوما، في المقابل يستهلك القمح 4.5 ملايين متر مكعب ولا تتجاوز إنتاجيته 2.4 طن، ويمكث في الأرض 200 يوم، ويستهلك الموز خمسة أضعاف هذه الكمية طوال العام، ولا ينزعج السيسي إلا من مزارعي الأرز!
وكما يحتاج المصريون إلى الأرز في طعامهم، تحتاج الأراضي الزراعية في الدلتا والبالغة 4 ملايين فدان إلى زراعة الأرز لعلاجها من التملح، وكذلك لإزاحة مياه البحر المتوسط حتى لا تتسرب إلى المخزون الجوفي تحتها وتدمرها. ويرى الخبراء أن هذه الأراضي تحتاج إلى زراعة 1.5 مليون فدان في دورة زراعية ثلاثية لهذا الغرض.
وفي الوقت الذي حاول فيه يوسف والي تخفيض مساحة الأرز إلى 1.1 مليون فدان لصالح الأرز الأميركي وفشل، أمر السيسي بتخفيض المساحة إلى 700 ألف فدان في 2018، وبالرغم من محاربته زراعة الأرز بحجة تهديد الأمن المائي، لا يمنع القوات المسلحة من زراعة البرسيم الحجازي في الصحراء الغربية وتصديره إلى دول الخليج، وهو يستهلك ضعف مياه الأرز. كما لا يمنع رجال الأعمال من سحب مليارات الأمتار المكعبة من المياه الجوفية من أجل ري ملاعب الغولف وملء حمامات السباحة في المنتجعات المقامة على طول طريق مصر إسكندرية الصحراوي.
مرسي يلغي الغرامات
في احتفاله بعيد الفلاح عام 2012، أمر الرئيس محمد مرسي برفع سعر طن الأرز للمزارعين من 1450 جنيها إلى 2050 جنيها للطن، وكذلك أسقط الغرامات المفروضة عليهم في السنوات السابقة، وكلف وزارة التموين بشراء الأرز من المزارعين، فاشترت الوزارة 800 ألف طن لبناء مخزون استراتيجي لم تحققه حكومة من الحكومات من قبل ولا من بعد، وظل سعر الأرز في منظومة السلع التموينية 1.5 جنيه فقط للكيلو، بمعدل كيلوين لكل مواطن في الشهر.
في المقابل وفي عهد السيسي، انخفضت المساحة بنسبة 35%، وتضاعفت غرامات الزراعة، وتوقفت وزارة التموين عن الشراء من المزارعين، وأدى تخفيض المساحة إلى استيراد 800 ألف طن من الأرز الهندي، من النوع الرديء، ووصل سعره إلى 10 جنيهات، واختفى من الأسواق، ووصل العجز في محافظات الصعيد 100% والوجه البحري إلى 80%، ثم رفع تماما الأرز من منظومة السلع التموينية.