سيقوم مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) برفع أسعار الفائدة ثانية في نهاية هذا العام، بعدما توقف عن رفعها دعماً للاستثمار والإنفاق الاستهلاكي داخل الولايات المتحدة.
وقد أدى امتناع البنك الاحتياطي عن رفع أسعار الفوائد هذا العام، ولعدة أشهر، إلى ارتفاع معدل النمو الاقتصادي إلى 3%، وهبوط نسبة البطالة إلى 4.3%، وإلى هبوط العجز التجاري الأميركي إلى حدود 500 مليون دولار شهرياً، بعدما تجاوز، في بعض الفترات خلال السنوات الماضية، حاجز الـ 700 مليون دولار.
كيف يفعل سعر الفائدة كل هذه الأمور؟
منذ انفجار الأزمة المالية العالمية في عام 2008، وانفجار البالون في سوقي العقار ورأس المال داخل الولايات المتحدة، تبنت إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، بعد استلامها مقاليد الأمور في مطلع عام 2009 برنامجاً لإنقاذ الاقتصاد الأميركي.
وقد شمل ذلك البرنامج أمرين هامين: الأول، تخصيص ما يقارب ثمانمائة مليار دولار، من أجل إنقاذ البنوك والشركات المتعثرة، مثل بانك أوف أميركا، وبنك سانتافي، وشركة الأموال الكبيرة في "وول ستريت" في نيويورك، خصوصاً بعد سقوط شركة ليهمان بروذرز.
وأما الأمر الثاني فقد كان تخفيض أسعار الفوائد أو "التسهيل الائتماني الكمي"، حتى يتمكّن الأفراد والشركات من الاقتراض بأسعار فوائد منخفضة، تمكّنهم من التوسع في الشراء الاستهلاكي والاستثماري.
ولقد تعود الاقتصاد الأميركي على هذه الحالة من تقليل كلف التمويل، حتى صارت جزءاً من بنية الاقتصاد. وقد أدى هذا الوضع، مع الوقت، إلى إبقاء الأسعار والأجور منخفضةً نسبياً قياساً إلى الأرباح، لكنه زاد من حجم الاستثمار وإيجاد فرص العمل.
وبهبوط البطالة، ارتفع الاستهلاك، وتحسّنت الدورة الاقتصادية تحسناً لم يؤثر على ارتفاع الأسعار، بسبب أن هذا التوسع نما على حساب استغلال الطاقة الإنتاجية المعطلة، وقلل من حجم مخزون السلع غير المباعة، وزاد عدد الداخلين إلى سوق العمل، من دون زيادة تذكر في الأجور، بسبب استقرار مؤشر تكاليف المعيشة.
أما وقد تحسّنت الأوضاع الاقتصادية مع استلام الرئيس، دونالد ترامب، الأمور، فقد استطاع البنك الاحتياطي الفيدرالي رفع أسعار الفوائد في كل مرة بمقدار ربع نقطة مئوية كل ثلاثة أشهر. وبعد رفعها مرتين، بدأ سعر الدولار بالتحسن في مقابل العملات الدولية القابلة للتحويل، مثل اليورو والين الياباني واليوان الصيني.
وكذلك، فإن سياسة التقليل من الانفتاح الاقتصادي، وتهديد إدارة ترامب، بإعادة النظر في اتفاقيات التجارة الحرة الموقعة مع دول الباسيفيكي، ومع دول شمال القارة الأميركية، ومع أوروبا ارتفعت وتيرة الإنتاج المحلي، بدلاً من استيراد مدخلات الإنتاج من الخارج.
وساهم في تحسين الأمور كذلك، ولو مؤقتاً، زيادة إنتاج النفط الأميركي، وخصوصاً من الصخر الزيتي، ومنع هجرة العمالة من الدول المجاورة، وخصوصاً المكسيك، تجسدت في البدء بتنفيذ مشروع الجدار الفاصل بين الدولتين.
وهنالك أمر مهم ثالث، ساهم في هذا الأمر، وهو تشدّد الرئيس الأميركي وإدارته في زيادة حصص شركائه في دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) لتحمّل مزيد من الأعباء الدفاعية، وكذلك تراجع اقتصاد الاتحاد الأوروبي، بفعل خروج بريطانيا من الاتحاد، وتراجع معدلات النمو في الصين.
ولكن الأهم هو النجاح مع دول الخليج، في جذب مزيد من الشراء للطائرات المدنية والأسلحة والسيارات والمعدّات الإلكترونية، وفي زيادة الاستثمار الخليجي في الولايات المتحدة.
أمام هذه الحقائق كلها، فإن التوقعات بتحسن الاقتصاد الأميركي قد صدقت، على الرغم مما جرّه هذا على إدارة ترامب من انتقادات لسلوكها العدواني مع شركائها. ولكن السؤال الذي يبقى مطروحاً: ما هو مستقبل أسعار الفوائد الأميركية؟
من الأسباب الموجبة للنظر في أسعار الفوائد الأميركية تأثيرها على سعر صرف الدولار. ومن البديهيات المقبولة أن الولايات المتحدة تكسب في الحالتين المتناقضتين، صعود صرف الدولار وهبوطه، فإذا ارتفع سعر الدولار زادت الثقة فيه، وأقبل العالم على اقتنائه واستخدامه وسيلة دفع دولية، ما يعزز مكانته بصفته رمزاً لقوة الاقتصاد الأميركي. وإن هبط سعر الدولار، فإن العجز في الميزان التجاري الأميركي يتراجع، ويتحسن وضع التوظيف المحلي.
ولقد تحسن الاقتصاد الأميركي، في الآونة الأخيرة، تحسناً ملموساً، لكن سعر صرف الدولار مال إلى الهبوط. وفي ظل حرب العملات غير المعلنة، قد ترى الولايات المتحدة من مصلحتها أن ترفع سعر الفائدة قليلاً، ولو مرة واحدة قبل نهاية هذا العام، برفع نقطة مئوية في حدها الأدنى، ونصف نقطة مئوية في حدها الأقصى. وقد بات معظم المراقبين في الأسواق المالية العالمية يتوقعون حدوث هذا الأمر مع نهاية العام الحالي.
بالطبع، ستقوم الدول التي ثبتت أسعار عملتها بالدولار بإجراء مماثل، ومنها دول عربية في الخليج والأردن ومصر، وحتى بعض دول شمال إفريقيا، وسيؤدي هذا الأمر إلى ارتفاع كلفة القروض الاستهلاكية والاستثمارية بأثر رجعي، وسوف يفاقم أزمة السيولة الحادة التي تعاني منها اقتصادات هذه الدول، بسبب أزمات الموازنة العامة في معظمها.
آن على الاقتصادات العربية أن تدخل في تفاوض مع الولايات المتحدة حول سياسات سعر الصرف وسعر الفائدة، حتى لا يبقى ما هو صالح للاقتصاد الأميركي ضارّاً بالاقتصادات المحلية العربية.