كشفت أزمة ارتفاع أسعار الطماطم في السوق المصري الشهر الماضي عن إهمال الدولة المتعمد لدورها في دعم البحوث الزراعية اللازمة لاستنباط أصناف جديدة لصالح مافيا استيراد البذور والتقاوي.
فقد أدى زراعة بذور طماطم مستوردة ومصابة بفيروس تجعد واصفرار الأوراق إلى تلف آلاف الأفدنة من المحصول قبل الدخول في مرحلة نضج الثمار، وبعد الزراعة والتسميد والري والمعاملة بالمبيدات، ما ضاعف خسائر المزارعين إلى عدة مليارات من الجنيهات.
فقد أدى زراعة بذور طماطم مستوردة ومصابة بفيروس تجعد واصفرار الأوراق إلى تلف آلاف الأفدنة من المحصول قبل الدخول في مرحلة نضج الثمار، وبعد الزراعة والتسميد والري والمعاملة بالمبيدات، ما ضاعف خسائر المزارعين إلى عدة مليارات من الجنيهات.
وارتفعت أسعار الطماطم إلى 12 جنيها للكيلو، وهو سعر غير مسبوق، ما أدى إلى ارتفاع التضخم في سبتمبر/أيلول الماضي بمعدل 2.6% عن أغسطس/آب السابق، وأرجع تقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الزيادة إلى ارتفاع أسعار الطماطم بنسبة 35%.
واعترف صاحب شركة استيراد بذور الطماطم المصابة بالفيروس باستيراد 38 ألف عبوة بذور تكفي لزراعة 38 ألف فدان من الطماطم في موسم زراعي واحد، وهي تمثل 50% من المساحة المزروعة على مستوى الجمهورية، ولما منعت وزارة الزراعة استيراد بذور الطماطم المصابة وطالبت بتعويض المزارعين، هدد صاحب الشركة بحدوث أزمة مع حكومتي الدولتين المصدرتين للبذور وهما فرنسا واليابان!
وقد أقر وزير الزراعة، عز الدين أبو ستيت، بأن الوزارة تستورد تقاوي خضر بمليار دولار تقريبًا، في ظل الظروف الاقتصادية التي تمر بها مصر، وأضاف نائب بالبرلمان باستيراد 98% من بذور الخضر بواسطة رجال أعمال.
أمن قومي
التقاوي المحسنة والبذور وفيرة الإنتاج هي أقل مستلزمات الإنتاج تكلفة، لكنها أهم وأخطر مدخلات الإنتاج الزراعي، وهي ثروة زراعية، وأمن قومي، من خلالها يحقق المزارعون الإنتاج الوفير، ويحققون الربح الوفير، وتكتفي الدولة من غذائها، وتدور الآلات في المصانع والمطاحن، والمغازل والنسيج، واستخلاص الزيوت، وبها تعمر الأسواق والمخازن.
إذ يعتبر مدير شعبة الإنتاج النباتي وحماية النبات لدى منظمة الأغذية والزراعة، فاو، أن استخدام البذور المحسنة وحدها كفيل بزيادة الإنتاج الزراعي بنسبة 50%، ويلفت النظر إلى أن مشروعات تكنولوجيا البذور المحسنة غير مكلفة أبداً بالنسبة لإمكانيات الدول، واستند الرجل في رأيه إلى دراسات للبنك الدولي في هذا المجال.
ثم أوقفت الحكومة بحوث الأرز، فتدهورت الإنتاجية حتى وصلت إلى 3.5 أطنان للفدان في 2018، بخسارة نصف طن في كل فدان، ما أدى إلى عجز الإنتاج والتوجه إلى استيراد الأرز طويل الحبة من الصين والهند وبجودة لا تناسب أذواق المصريين فأطعموا به الطيور والمواشي.
وعندما تخلت الحكومة عن دورها في توفير بذور القطن الأصلية، وأوقفت دعم برامج تنمية وتطوير واستنباط الأصناف من خلال الخبراء وعلماء تربية النباتات في مركز البحوث الزراعية والذي يضم 12 ألف باحث زراعي، تدهورت إنتاجية القطن من 12 قنطارا في السبعينيات والثمانينيات إلى 4 قناطير للفدان في 2018، في المقابل وصلت إنتاجية أصناف القطن المصرية إلى 17 قنطارا في أميركا وإسرائيل.
إهمال حكومي
وأهملت الحكومة بحوث القمح، وخفضت عدد الحقول الإرشادية النموذجية، وألغت الدعم الزراعي المقدم لمنتجي القمح، بعكس ما تفعل مع مصدري البطاطس المقربين من النظام، ولا تكفي التقاوي المحسنة سوى زراعة 30% فقط من المساحة المزروعة بالقمح والتي تصل إلى 3 ملايين فدان، وتدهورت الإنتاجية من 18 أردبا في 2013، إلى أقل من 15 أردبا في 2018، وأصبحت مصر المستورد الأول للقمح على مستوى العالم، وزادت الواردات في عهد الجنرال السيسي إلى 12 مليون طن في 2017، مقابل 7 ملايين طن في 2013.
إنتاج البذور والتقاوي المحسنة من الخضروات والفاكهة والحبوب والبقول، والمحافظة على الأصول والتراكيب الوراثية للقطن والقصب مسؤولية الدولة وحدها، لا يقوم بها الأفراد دون دعم مباشر من الدولة، ولا يستطيع الباحثون في مراكز البحوث القيام بمهامهم في استنباط التقاوي وتحسين القائم منها بدون دعم مباشر وحماية من الدولة.
انسحاب الدولة
انسحاب الدولة من دورها في الإنتاج الزراعي وتوفير البذور عالية الإنتاج، هو سياسة يحمل وزرها، يوسف والي، وزير الزراعة في عهد المخلوع حسني مبارك والذي بدأها وأُطلق عليها اسم "الإصلاح وإعادة الهيكلة" للقطاع الزراعي المصري، وتراجع بمقتضاها الدعم الحكومي المخصص للمدخلات الزراعية، وأزيلت القيود الحكومية المفروضة على القطاع الخاص في استيراد وتوزيع البذور والتقاوي.
وفي عهد الجنرال السيسي تقدم رجال الأعمال المستوردون للبذور، من خلال شعبة المستوردين بالاتحاد العام للغرف التجارية، بمبادرة للتبرع لصندوق "تحيا مصر"، الذي يشرف عليه الجنرال، بمبلغ 2 مليار دولار سنويًا لمدة 5 سنوات بإجمالي 10 مليارات دولار، في مقابل التحكم في استيراد بذور المحاصيل الأساسية التي تمس الأمن القومي للمساحات المزروعة بالكامل وبنسبة 100%.
تم تخفيض ميزانية مركز البحوث الزراعية إلى أقل من 10 ملايين جنيه، وخصصت جميعها لترميم المباني والأساسات، وتوفير الوقود للسيارات، ولم يخصص منها أي دعم للأبحاث وتطوير الأصناف النباتية، بالرغم من وصول ميزانية مركز البحوث الزراعية إلى 250 مليون جنيه في عام 1982، وكان من المفترض أن تزيد إلى مليار جنيه سنة 2000، ثم تصل إلى 1% من الناتج القومي في نواحي البحث المختلفة.
لاسيما أن المادة 23 من الدستور تنص على أن "تكفل الدولة حرية البحث العلمي وتشجيع مؤسساته، باعتباره وسيلة لتحقيق السيادة الوطنية، وبناء اقتصاد المعرفة، وترعى الباحثين والمخترعين، وتخصص له نسبة من الإنفاق الحكومي لا تقل عن 1% من الناتج القومى الإجمالى تتصاعد تدريجيا حتى تتفق مع المعدلات العالمية".
حكومة غير جادة
ويبدو أن الحكومة في عهد السيسي غير جادة في دعم البحث العلمي، وقد خفضت الميزانية المخصصة لدعم البحوث الزراعية على وجه الخصوص، وتعمدت إلغاء المادة التي تنص على استقلال المراكز البحثية، وهي المادة 59 من دستور 2012، والتي تنص على: "حرية البحث العلمي مكفولة. والجامعات والمجامع العلمية واللغوية ومراكز البحث العلمي مستقلة، وتخصص لها الدولة نسبة كافية من الناتج القومي".
وألغى دستور 2014 المادة 15 من دستور 2012، والتي تهتم بتنمية وتحسين البذور والأصناف النباتية والحفاظ على جودة الأصناف المحلية عالية الإنتاج وذات القيمة الاقتصادية مثل القطن، وتنص المادة على أن: "الزراعة مقوم أساسي للاقتصاد الوطنى.. وتعمل على تنمية المحاصيل والأصناف النباتية والسلالات الحيوانية والثروة السمكية وحمايتها، وتحقيق الأمن الغذائي".
شهدت الهند مجاعة أفنت أربعة ملايين شخص في الخمسينيات من القرن الماضي، وكانت المجاعة شرارة لثورة خضراء ارتكزت على مجموعة من السياسات الزراعية، أولها وأخطرها تقاوي القمح المحسنة عالية الإنتاج.
واستطاعت الهند الواعدة أن تنشر تقاوي القمح الجديدة غزيرة الإنتاج في فترة زمنية قصيرة، وتصل إلى مزارعي البنجاب الفقراء في الشمال وكرلا في الجنوب. فتحولت من دولة تستورد عشرة ملايين طن من الحبوب عام 1963 إلى دولة تنتج الآن 250 مليون طن، وتصدر منها 25 مليون طن، وتحقق فائضا في ميزان التجارة الزراعي قدره 14%، رغم أن عدد سكانها مليار وربع مليار نسمة.
في المقابل تظل مصر أكبر مستورد للقمح في العالم لأنها تهمل تقاوي القمح وفيرة الإنتاج.