صنَّفت منظمة الأمم المتحدة منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سنة 2019 ضمن فئة أكثر مناطق العالم فقراً، وذلك مع الأخذ بالاعتبار عدّة أبعاد لا تتمثل فقط في مستويات الدخل والاستهلاك، بل تشمل أيضاً مستوى التعليم، الصحة، ونسبة الوفيات المبكّرة، حيث يسمح إدماج هذه العوامل بإعادة النظر في الإحصائيات المنشورة حول الفقر من قبل مختلف المنظمات، وبالتي ستنزلق شرائح أخرى إلى هوة الفقر.
ووفقاً لبيانات اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) ESCWA، التابعة للأمم المتحدة، تمَّ تصنيف 116 مليون شخص في 10 دول عربية على أنّهم فقراء، في حين أنّ 25 بالمائة من سكان تلك الدول هم عرضة للفقر متعدِّد الأبعاد في السنوات المقبلة، وهذا ما يعتبر تهديداً طويل الأجل للعديد من الأسر في المنطقة العربية. وإذا ظلَّت الحكومات العربية عاجزة عن توليد المزيد من الوظائف وفرص العمل ودعم الرعاية الصحية والتعليم، فإنّ الأسر الفقيرة اليوم ستظلّ فقيرة لعدّة أجيال.
بالطبع ما زالت الحكومات العربية تتكاسل في دمج تلك العوامل المهمة في مؤشر الفقر متعدِّد الأبعاد وتماطل في تقديم البيانات حول ظاهرة الفقر التي اكتسحت شرائح كثيرة من المجتمعات العربية، والسبب يكمن في تغييب العقل النقدي للمواطنين العرب والاستمرار في رسم صورة مزيفة تخفي بشاعة معاناة الفقراء للتبرير لبذخ الأمراء والرؤساء والوزراء وباقي الأثرياء.
ولم تستطع الأحياء الراقية والقصور الفارهة في أغلب الدول العربية التستُّر على الفقر الذي يحرم العديد من الأطفال من إكمال مسيرتهم التعليمية، ويسمح للمرض بنهش أجساد الفقراء ويذيقهم مذلة البؤس وکؤوس المرارة والهوان، لذلك أصبح من الضروري الاستعانة ببيانات الصحة من حيث التغذية ووفيات الأطفال، واستخدام بيانات التعلُّم من خلال احتساب سنوات الدراسة بالمدارس ومدى انتظام الأطفال في عملية التمدرس، واستعمال المؤشرات الدالة على مستوى المعيشة، كالأصول والسكن والكهرباء والصرف الصحي ومياه الشرب ووقود الطهي، وكل ذلك من أجل رؤية الفقر بأبعاده المتعدِّدة بشكل أوضح من ذي قبل، لأنّ مسألة الفقر ليست مسألة دخل فقط.
تحاول منظمة الأمم المتحدة ضمّ كل دول العالم في مؤشر الفقر متعدِّد الأبعاد، لكنَّها استطاعت سنة 2019 توفير البيانات حول 101 بلد فقط، أي أنَّها تمكَّنت من تغطية 76 بالمائة من سكان العالم. وبناءً على البيانات التي تمَّ جمعها، يشير ذلك المؤشر إلى أنّ ثلث سكان العالم يعانون من فقر متعدِّد الأبعاد، ويعيش أفقر السكان في 49 دولة من أصل 101 بلد، حيث يعيش 1.1 بالمائة من السكان الفقراء في أوروبا وآسيا الوسطى، و57.5 بالمائة من الفقراء في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، تليها بلدان جنوب آسيا ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بنسبة 31 بالمائة و15.7 بالمائة على التوالي، وذلك حسب أحدث إصدارٍ لمؤشر الفقر متعدِّد الأبعاد في سنة 2019.
لا يمكن إنكار حقيقة التحسُّن الملحوظ الذي شهدته دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مستوى معدلات الالتحاق بالمدارس، ولكن هذا الإنجاز المتواضع لم يعكس لحدّ الساعة تحسُّن مستوى رفاهية المواطنين.
فوفقاً لتقرير البنك الدولي، لم يساهم التقدُّم الذي أحرزته أغلب الدول العربية أخيراً في التحصيل العلمي ومعدلات الالتحاق بالمدارس في زيادة فرص العمل للشباب، الأمر الذي جعل من المنطقة العربية أكبر وكر لبطالة الشباب في العالم، لأنّ متطلَّبات سوق العمل في العالم العربي في وادٍ ومهارات ومؤهلات الخريجين في وادٍ آخر، وهذا ما يفسح الطريق أمام وجود افتقار تام للتناسق والتناغم بين الاثنين.
وتكمن غلطة الحكومات العربية في التباهي بإنشاء أكبر الجامعات مع إهمال تحسين تعليم الأطفال في الصفوف المبكرة وغضّ البصر عن تحسين مؤهلات المعلمين ومدراء المدارس، لأنّ التعليم هو عبارة عن سلسلة متكاملة قد تنقطع في أيّ لحظة إن غابت حلقة واحدة منها، ويزداد الطين بلة عندما تتعلَّق تلك الحلقة المفقودة بنوعية التعليم الابتدائي والمتوسط، كونها اللبنة الأساسية لجودة العملية التعليمية ونجاعتها.
أمّا في ما يتعلق بالصحة، فيُؤكِّد المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية، على أنّ الأمن الغذائي يعتبر من أخطر التحديات التي تواجه معظم دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا باستثناء دول مجلس التعاون الخليجي، وذلك لكون التغذية ووفيات الأطفال أهم مقياسين للبعد الصحي لمؤشر الفقر متعدِّد الأبعاد.
كما أشارت بعض الدراسات الصادرة حديثاً عن البنك الدولي إلى أنّ كلاً من الإدارة السيئة للمياه والإفراط في الري وهدر المياه تهدِّد الأمن الغذائي في المنطقة وخصوصاً للفئات الهشة.
وبالرغم من إحراز تقدُّم ملحوظ في خفض معدل وفيات الأمهات والأطفال دون سن الخامسة في المنطقة العربية، إلا أنّه لا يوجد تحسُّن متوازن ومتكافئ بين الدول العربية، إذ تتميَّز البلدان ذات الدخل المرتفع بتوفير رعاية صحية أفضل لمواطنيها، لا سيَّما من ناحية التوليد والتطعيم مقارنة بالبلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل.
كما يجب الأخذ بالاعتبار عامل عدم الاستقرار السياسي في التأثير على إمكانية حصول الأطفال على الرعاية الصحية اللازمة في المنطقة، فعلى سبيل المثال هناك معدلات متدنية للتطعيم ورعاية المواليد الجدد في الدول التي مزَّقتها الحروب، مثل سورية واليمن، مقارنة بغالبية دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الأخرى، وهذا يحدث بالرغم من البرامج المكثَّفة التي أطلقتها منظمة الصحة العالمية منذ عام 2014.
علاوة على ذلك، لا يتمتَّع ثلثا سكان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بأيّ نوع من أنواع الضمان الاجتماعي الرسمي، كالإعانات وبرامج التحويل النقدي وغيرها من أشكال المساعدة الاجتماعية التي تستهدف الأيتام والأرامل والنساء المطلقات والمسنين، في الوقت الذي خطت فيه الدول المتقدمة التي تفتقر إلى العديد من الثروات والموارد الطبيعية خطوات هامة في تقديم المساعدة الاجتماعية غير القائمة على الاشتراكات والعمالة والمساهمة من أجل القضاء على الأسباب الرئيسية للفقر بدلاً من مجرّد تخفيفها، كتحسين مهارات الفقراء ومنحهم التدريبات اللازمة ثمّ توظيفهم.
وتأتي مشكلة عدم المساواة بين الجنسين في التوظيف في المنطقة العربية لتزيد من حدّة الفقر، فوفقاً لتقرير البنك الدولي لسنة 2019، لا تزال المرأة ممنوعة من العمل في مجالات معينة في بعض بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث يُنظر إلى عمل المرأة خارج المنزل على أنّه سلوك غير أخلاقي للنساء.
خلاصة القول إنّ الحدّ من الفقر يبدأ أوّلاً بقياس جميع أبعاده وتقديم كافة البيانات المتعلقة بذلك، وهذا ما يتطلَّب من الحكومات العربية السهر على إنجاز دراسات استقصائية شاملة حول كافة أبعاد الفقر المهمة، لأنّ خدعة طمس الحقائق وحجب البيانات الحقيقية لن تنطلي على الأجيال المقبلة التي تعلو صرخات المساواة داخلها وتعرف كيف تثور لحقوقها ولقمة عيشها.