تسعى الحكومة التونسية إلى مقاومة المدّ المتزايد للاقتصاد الموازي والتهريب، عبر حملة "استهلك تونسي" التي أطلقتها نهاية الأسبوع الماضي لإحياء الطلب على الصناعات الوطنية، التي تواجه الكثير من المشاكل منها مخاطر التوقف، بينما يشير خبراء اقتصاد ومواطنون إلى صعوبات تعترض نجاح مثل هذه الحملات، ومنها ضرورة تجويد المنتجات المحلية وطرحها بأسعار تنافسية.
وبالتوازي مع الحملة الحكومية، تعمل منظمات مدنية على دعم الوعي لدى المستهلكين، بشراء المنتجات المحلية بدلاً من المستوردة، وذلك بعد تراجع غير مسبوق في مؤشرات القطاع الصناعي.
وعلى مدار السنوات الثماني الماضية، شهد الاقتصاد الموازي توسعاً غير مسبوق، مستمداً قوته، وفق محللين، من حالة "وهن" الدولة وغياب الرقابة، فيما تشير بيانات حكومية إلى تغلغل الاقتصاد الموازي الذي يستحوذ على نحو 54% من إجمالي الناتج المحلي.
وكشفت دراسة حديثة للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية (عمومي)، أعدّها بالتعاون مع مؤسسة "فرانس استراتيجي" التابعة للحكومة الفرنسية، عن أن الاقتصاد الموازي بات ينافس الاقتصاد المنظم في العديد من القطاعات، مشيراً إلى أن ذلك أحدث تحولاً في خريطة التشغيل واليد العاملة النشطة في الدولة.
وأظهرت الدراسة، استقطاب الاقتصاد الموازي نحو 2.5 مليون شخص، إذ تتمثل النسبة الكبرى من الناشطين في صغار السنّ وكبار السنّ، لافتة إلى أن العمال الأقل تأهيلاً وخبرة هم الأكثر عرضة للقبول بأعمال غير مهيكلة، إذ يتركز هذا الصنف من العمال في محافظة صفاقس (جنوب) التي تحتل الصدارة بأكبر نسبة من الناشطين في الاقتصاد الموازي بنسبة 7%، تليها محافظة سوسة (جنوب العاصمة تونس) بنسبة 5.5%.
وقال الخبير الاقتصادي محمد صالح جنادي لـ"العربي الجديد"، إن الأرقام التي كشفت عنها دراسة معهد الدراسات الاستراتيجية، تبيّن عمق أزمة الاقتصاد التونسي الذي يتلاشى في المسالك الموازية.
وحسب جنادي، فإن المؤسسات الصناعية فقدت جزءاً كبيراً من تنافسيتها بسبب ارتفاع كلفة الإنتاج والمحروقات والكهرباء، فضلاً عن الهبوط المتواصل لقيمة الدينار مقابل العملات الأجنبية، ما دفع مصنعين إلى تغيير نشاطاتهم نحو قطاعات ذات كلفة منخفضة وأهمها الاتجار في السلع الموردة.
وأضاف أن حملة "استهلك تونسي"، يجب أن تترافق مع برنامج حكومي كامل لدعم الصناعات المحلية، حتى تتمكن من استعادة عافيتها وتتمكن من احتواء جزء من العاملين في القطاع الموازي بكل تفرعاته.
وتابع أن استعادة الصناعات المحلية مكانتها، تتطلب تركيز الإنتاج على التكنولوجيا الحديثة، حتى يتمكن المصنعون من منافسة الخارج، وبدون ذلك سيظل من المستبعد تمكن الدولة من مجاراة متطلبات السوق العالمية.
ولا تقتصر الآثار السلبية للسوق الموازية على الإنتاج المحلي فحسب، كما يؤكد الخبير الاقتصادي، بل تمتد إلى التوازنات المالية لصناديق الضمان الاجتماعي والمعاشات، نظراً لغياب آليات قانونية تستوعب هذا الصنف من الناشطين، داعياً إلى تطوير القوانين لاحتواء العاملين في مختلف أنشطة السوق الموازية، ورعايتهم اجتماعياً وإدراجهم ضمن الدورة الاقتصادية المنظمة.
وكان صندوق النقد الدولي، قد دعا تونس في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، إلى وضع حد لإحجام المستثمرين عن البلاد، حتى تتمكن من خفض معدلات البطالة المرتفعة التي تبلغ 15%، وتصل إلى 35% بين الشباب، واعتبره أمراً هاماً وضرورياً للحفاظ على استقرار المجتمع والاقتصاد.
وقال الصندوق في تقرير عن الاقتصاد التونسي آنذاك، إنه رغم تراجع معدل البطالة بين الخريجين منذ عام 2011، إلا أنها لا تزال مرتفعة، مؤكداً أنّ معالجة هذه القضايا أمر ضروري للحفاظ على سلامة الاقتصاد والمجتمع.
لذلك أوصى صندوق النقد، السلطات التونسية بالعمل على وضع حدّ لإحجام المستثمرين وبناء الثقة، وتعزيز الحوكمة، في إطار جهود الحكومة لمكافحة الفساد، وإقامة بيئة أعمال تنافسية، وتطبيق سعر صرف عادل، وتوفير حوافز استثمارية لزيادة الإنتاجية، والحد من الروتين الإداري، ما سيساعد في إطلاق إمكانات القطاع الخاص لخلق مزيد من الفرص والوظائف لجميع التونسيين.
ورغم تأكيد صندوق النقد الدولي والمؤسسات التونسية أهمية الاقتصاد الرسمي وضرورة تحجيم السوق الموازية، يرى خبراء أن الاقتصاد الموازي يحمل جوانب إيجابية منها الحدّ من البطالة.
ويقول عبد الجليل البدوي، الخبير الاقتصادي لـ"العربي الجديد" إن عدد الخريجين العاطلين مرشح للارتفاع، وخاصة أن الوضع الاقتصادي الحالي لا يسمح بحلحلة أزمة البطالة.
كما يشير مواطنون إلى أن تراجع القدرات الشرائية للكثير من الأسر في السنوات الأخيرة، عزز من الإقبال على الأسواق الموازية، التي غالباً ما تكون منتجاتها أرخص وأعلى جودة باعتبارها مستوردة، بغض النظر عن طرق قدومها إلى البلاد، مؤكدين أنه لكي تنجح أي حملة لتشجيع المنتجات الوطنية، لا بد أن يعمل المنتجون على تجويد السلع وطرح أسعار تنافسية.
وبلغ معدل التضخم، خلال يناير/ كانون الثاني نحو 7.1%، وفق بيانات صادرة عن البنك المركزي في فبراير/ شباط الماضي. ومع ارتفاع أعباء المعيشة، بات الاقتراض تقليداً راسخاً لدى الأسر التونسية، إذ كشفت بيانات صادرة عن المعهد الوطني للاستهلاك الحكومي، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، عن ارتفاع نسبة الاستدانة لدى الأسر بنسبة 117% منذ عام 2010 وحتى منتصف العام الماضي 2018، لتبلغ 23.1 مليار دينار (8.5 مليارات دولار)، إذ أصبح ربع العائلات يدفع أقساطاً شهرية للمصارف.
وبحسب البيانات، فإن 36.5% من التونسيين لديهم فرد على الأقل في العائلة بصدد سداد قرض بنكي، و10.3% لديهم فردان في حالة سداد، فيما يلجأ 19.6% منهم بصفة مستمرة إلى قضاء حاجاتهم عبر الاقتراض، وهم في حالة سداد دائمة للديون.
ومع توجه السيولة النقدية إلى الاقتصاد الموازي، ظهرت أنشطة مالية غير رسمية أضحت تهدد المؤسسات الرسمية للدولة. ولعل تصريحات محافظ البنك المركزي مروان العباسي أخيراً حول رصيد العملة الصعبة المتداول في السوق الموازية، يشير إلى مخاطر توسع الاقتصاد الموازي في الدولة.
وأشار العباسي نهاية فبراير/ شباط الماضي إلى تداول نحو 1.3 مليار دولار في السوق الموازية، فيما تقدّر الموجودات الصافية من النقد الأجنبي بـ 4.8 مليارات دولار.