قبل اتخاذ قرار تعويم الجنيه المصري الخطير في بداية شهر نوفمبر تبارى الجميع في وصف فضائل التعويم ومزاياه وفوائده للاقتصاد والعباد، والقائمة طويلة حيث ضمت صحفيين وإعلاميين ومصرفيين واقتصاديين ومسؤولين عن إدارة السياسة الاقتصادية والنقدية ورؤساء منظمات أعمال وغرف تجارية وصناعية، بل وسياسيين ونواباً بالبرلمان ورجال دين.
فالتعويم، من وجهة نظر كل هؤلاء، سيقضي نهائياً على السوق السوداء للعملة التي تسببت في انهيار الجنيه المصري وحدوث قفزات في الأسعار لم يعد يتحملها رجل الشارع.
والتعويم سيخفي من الوجود وجوه تجار العملة والمضاربين ومرتزقة العملات وأسواق الصرف الساعين لتدمير هذا البلد وتحقيق أرباح حرام بمليارات الدولار على حساب قوت الشعب والاقتصاد الضعيف.
والتعويم سيعيد السياح الفارين لمصر، حيث سيحول البلاد لمقصد سياحي رخيص جاذب يفوق ما كان عليه الحال قبل ثورة 25 يناير 2011 من حيث العدد والإيرادات المحققة، بل وأفضل من ذلك بكثير، فمصر في ظل تعويم عملتها الوطنية ستتفوق على أسواق سياحية عريقة ليس في المنطقة وحسب بل وفي العالم كله.
والتعويم سيعيد الاستثمارات الأجنبية الهاربة من البلاد والتي فرت على خلفية تذبذب سوق الصرف وصعوبة الحصول على نقد أجنبي، وسيجعل مصر من أفضل الدول جذباً للاستثمارات الخارجية خاصة تلك الهاربة من الأسواق الناشئة والمضطربة، لأن التعويم سيقضي على السوق السوداء التي تمثل أكبر تهديد حقيقي للاستثمار وأصحاب الأموال في البلاد.
والتعويم سيرفع معدلات تحويلات المصريين العاملين بالخارج، وسيعيد ثقة المغتربين في عملة بلدهم بعد أن هجروها بسبب الارتفاع المتواصل في سعر الدولار والخوف على تآكل مدخراتهم المحلية وشقى عمرهم.
والتعويم سيؤدي لتراجع أسعار السلع والخدمات، خاصة وأن البنوك ستلبي احتياجات المستوردين والتجار من النقد الأجنبي، وبالتالي لن يجد هؤلاء صعوبة في تدبير احتياجاتهم الدولارية أو فتح اعتمادات مستندية لدي المصارف لاستيراد المواد الخام والسلع الوسيطة المرتبطة بحركة الانتاج.
والتعويم سيزيد الإنتاج ويقلل الواردات التي تلتهم نحو 80 مليار دولار من موارد البلاد من النقد الأجنبي، لأنه سيتيح للبنوك تدبير احتياجات المصانع اللازمة لفتح اعتمادات الاستيراد من الخارج.
والتعويم سيزيد الصادرات الخارجية ويفتح أبواب الأسواق الخارجية على مصراعيها لاستقبال المنتجات المصرية لرخص أسعارها في ظل التعويم وترك العملة الوطنية للعرض والطلب.
فجأة تم تسويق قرار تعويم الجنيه المصري من قبل كل هؤلاء على أنه المنقذ لمصر، وأن الحكومة اتخذت القرار من منطلق وطني بحت بهدف تحقيق كل المزايا السابقة، وليس بسبب ضغوط من المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي، أو استجابة لضغوط المستثمرين الأجانب الذين هددوا بالانسحاب من مصر بسبب خسائرهم الضخمة الناجمة عن اضطرابات سوق الصرف وقفزات الدولار، بل وعدم توافره في الأسواق أصلاً.
وبعد مرور شهرين على هذا قرار تعويم قيمة الجنيه الخطير يخرج علينا محافظ البنك المركزي طارق عامر اليوم الثلاثاء ليقول لنا إن عصا التعويم السحرية لن تقضي على السوق السوداء فوراً، وأن هذه السوق لن تختفي فوراً بمجرد استخدام عصا التعويم السحرية، وأن الأمر يتطلب وقتاً للقضاء تماماً على هذه السوق.
إذا كان الحال كذلك، لماذا إذن التسرع في اتخاذ هذا القرار الخطير دون الاستعداد الجيد والكافي له؟ ولماذا كل هذه الدعاية الفجة لقرار التعويم وكأنه المنقذ للاقتصاد والعباد، وتسويق القرار على أنه الحل الوحيد لوقف التدهور الاقتصادي، وتفاقم عجز الموازنة، وارتفاع التضخم، وتراجع إنتاج الشركات والمصانع، والشح الشديد في العملة الصعبة، وغياب السائحين والصادرات والتحويلات الخارجية والمستثمرين الأجانب وتراجع إيرادات قناة السويس.
كلام المحافظ قلناه مرات عدة لكن قبل التعويم وليس بعد شهرين من القرار، وقلنا ما هو أكثر، وهو أن السوق السوداء للعملة لن تختفي إلا بعد زيادة الإنتاج والتصدير، وإعادة النشاط للقطاعات الاقتصادية المدرة للنقد الأجنبي وفي مقدمتها السياحة والاستثمارات الأجنبية وتحويلات المغتربين، وهذا كله مرتبط بحدوث استقرار سياسي حقيقي، استقرار تختفي فيه المعتقلات وتتوقف مطاردة المعارضين للسلطة الحاكمة بل وقتلهم، استقرار يوحد بين المصريين في الحقوق والواجبات، استقرار تكون فيه الكلمة الأولى والأخيرة للقانون.