لم يعرف التاريخ الحديث، وربما القديم، عمليات فساد منظمة وواسعة النطاق، وبعشرات المليارات من الدولارات، مثلما حدث في العراق طوال الـ 16 عاماً الماضية ومنذ الاحتلال الأميركي للبلاد في عام 2003.
ولم يعرف التاريخ المعاصر أن موارد وثروات بلد عربي عريق مثل العراق باتت تتوزع حصرياً ما بين جيوب مسؤولين لصوص تعاقبوا على حكمها منذ الاحتلال الأميركي، ودول خارجية تدعم هؤلاء الحكام في مناصبهم، وأقصد هنا إيران تحديداً، التي حول لها رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، مليارات الدولارات من أموال العراق، وقت أن كانت طهران تئن تحت العقوبات الغربية وتخلو مصارفها وأسواقها من النقد الأجنبي بسبب العقوبات واختفاء الاستثمارات الخارجية.
أما الوطن والمواطن فليذهبا مع الرياح وإلى الجحيم، حيث يطاولهما الفساد السرطاني والفقر والبطالة وغلاء الأسعار والتقشف والانهيار المالي والاقتصادي والتوسع في الاقتراض الخارجي والمحلي وانهيار الخدمات والبنية التحتية.
ومع كل هذه الكوارث التي يمر بها العراق، تأتي كوارث أخرى منها داعش والإرهاب وما يمثلانه من أوبئة سرطانية تأكل الأخضر واليابس، ومعهما يتم حرق ثروات البلاد النفطية أو على الأقل تهريبها وبيعها في السوق السوداء للإنفاق على المجهود الحربي الذي يتم من خلاله قتل العراقيين، والنتيجة هروب العراقيين ما بين مهجرين داخل أوطانهم أو لاجئين في دول خارجية.
ومن هنا يجب التعامل مع قرار البرلمان العراقي الصادر يوم الأربعاء الماضي بإقالة وزير المالية، هوشيار زيباري، في اتهامات تتعلق بالفساد وإساءة استغلال الأموال العامة.
قرار إقالة الوزير ليس خطوة في ملف مواجهة الفساد السرطاني الذي يطاول معظم كبار المسؤولين في العراق كما يظن البعض، ولا يعبر عن تحرك برلماني أو حكومي لمواجهة أزمة باتت مستعصية على الحل بعد أن طاولت الجميع، بل القرار مجرد حلقة صغيرة في سلسلة أكبر عملية نهب منظم لموارد ثاني أكبر دولة نفطية في المنطقة بعد السعودية.
وبغض النظر عن التفسيرات السياسية لعزل زيباري، وقول البعض إنها تستهدف إسقاط الحكومة القائمة، وإنها ضربة من حزب الدعوة ودولة القانون بقيادة المالكي لإقليم كردستان العراق، الذي يسعى للانفصال عن الدولة المركزية ببغداد، أو أن إقالة الوزير ناتجة عن دوافع سياسية لإزاحة ممثل الأكراد الأبرز في حكومة يسيطر عليها الشيعة، إلا أن قرار البرلمان من وجهة نظري له خلفيات أخرى.
خلفيات تتعلق بالصراع على من يكون الفاسد الأكبر والأول في البلاد، وكيف أن ملف مواجهة الفساد تحول إلى بزنس كبير يتم من خلاله حصد مزيد من المليارات من موازنة وإيرادات الدولة من قبل مسؤولين وبرلمانيين وكبار، وكيف يتم إزاحة وزير هدد في يوم ما بالكشف عن الكثير من عمليات الفساد ولم يفعل رغم موقعه الحساس، حيث كان يتولى إدارة موارد العراق المالية.
زيباري تحدث عن عمليات فساد واسعة وبمليارات الدولارات ارتكبها نوري المالكي ووزراء في الحكومة السابقة والحالية، وتحدث مؤخرا عن تهريب شخص 6.5 مليارات دولار من أموال العراق إلى حسابه الشخصي في بنك بالخارج، ورغم أن الادعاء العام طالبه بالكشف عن هوية الشخص، إلا أنه لم يفعل، كما لم يتحرك لملاحقة حالات الفساد الصارخة داخل الحكومة أو يبلغ جهات التحقيق بتفاصيلها.
زيباري نفسه متهم بالفساد منذ توليه منصب وزارة المالية في عام 2014، فساد يتعلق باستغلال منصبه وإهدار المال العام.
العراق يعوم على بركة فساد مالي مستشر في كل مفاصل الدولة، وبإشراف شخصيات تتمتع بنفوذ، ويعتبر العراق من أعلى الدول في معدلات الفساد الإداري والمالي، وهو يتركز بشكل ملحوظ في عدة مرافق حساسة مثل القضاء، والوزارات الأمنية والخدمية، ويعتبر السياسيون الكبار في البلاد الأوائل من الذين تحاصرهم تهم الفساد، ولذا يعتبر العراق مع عدة دول مثل أفغانستان والصومال واليمن والسودان وليبيا من أكثر الدول في معدلات الفساد حسب إحصاء باروميتر للفساد.
ونوري المالكي هو الأشهر في تاريخ الحكام العراقيين الذين نهبوا البلاد لمصلحة إيران التي كانت تدعمه في حكمه، ويكفي هنا أن نستشهد بتقرير صادر عن اللجنة المالية بالبرلمان العراقي يقول إن أغلبية المشروعات التي أقرّت في عهد حكومة المالكي تبين أنها وهمية وأغلبها منح لأقرباء المالكي ومقربين منه، كما أن حجم الهدر المالي بلغ 109 مليارات دولار في فترة حكمه الممتدة لأكثر من 9 سنوات، كما اكتشفت اللجنة ستة آلاف مشروع وهمي أُقرت في عهد المالكي وصرف ثمنها الذي بلغ 6.2 مليارات دولار.
وما بين حالات الفساد الصارخة تلك التي أهدرت ثروات العراق يعيش المواطن فقيراً بائساً لا يعرف مستقبله من ماضيه.