تشجّع غالبية الفرنسيين الحراك واسع النطاق المرتقب يوم السبت في السابع عشر من الشهر الجاري، إذ كشف استطلاع، أمس الخميس، تأييد 71% له، تريد أن ترى التضحيات المطلوبة تسير في الاتجاه الصحيح، وليس في إنقاذ موازنات تبتلع الموازنة الرئيسية، بخاصة موازنة الدفاع.
وهذا هو مطلب العريضة التي حظيت بـ800 ألف توقيع، والتي تطالب بخفض أسعار الوقود، وإطلاع الرأي العام الفرنسي على الهدف الحقيقي، وليس المعلن، من هذه الزيادات المرشحة للاستمرار حتى سنة 2022.
قد يبدو من التبسيط القول إن هذه الزيادات الحادة على أسعار المحروقات التي تعرفها فرنسا، حاليا، تموّل الهدف الفرنسي الرسمي المعلن والمتمثل في الانتقال الطاقوي، أي الانتقال الإيكولوجي.
لكن الحق أن الضرائب على المحروقات في فرنسا تشكل نحو 60% من ثمن المحروقات، ولكنها، لا تفيد، إلاّ بصفة جزئية، في تمويل ما تسميه الحكومة بـالانتقال الطاقوي. وفي ما يخص الزيادات الجديدة التي قررتها الحكومة، فهي تذهب مباشرة إلى الموازنة العامة للدولة.
وتحضع المحروقات في فرنسا لصنفين من الضرائب: الأول الضريبة الداخلية لاستهلاك المنتوجات الطاقوية TICPE، والثاني الضريبة على القيمة المضافة TVA، التي تطبق على ثمن المحروقات، ولكنها تطبَّق، أيضاً، على ثمن TICPE. وهكذا فإن الضريبة على القيمة المضافة تملأ صناديق الدولة دونما أي تمييز بين وزارة وأخرى.
ويجهل الكثيرون حقيقة ضريبة TICPE، لكنها توفر رابع دخلٍ ضريبي لموازنة الدولة بعد الضريبة على القيمة المضافة ثم الضريبة على الدخل، والضريبة على الشركات. وهي ستدرّ على الدولة، سنة 2018، نحو 33.8 مليار يورو.
وبإمكان عائدات هذه الضريبة أن تموّل، وحدها، ميزانية وزارة البيئة (الانتقال الإيكولوجي والمتضامن)، خلال هذه السنة، وهي 33.3 مليار يورو. وما يزيد من حَنق أصحاب السيارات هو كون هذه الضريبة على المحروقات من المقرر لها أن تزداد قيمتها، كل سنة، حتى 2022، بنحو 3.7 مليارات إضافية العام القادم، أي بزيادة 11.5%.
وترى الإدارة العامة للطاقة والمناخ، في تقرير أصدره مجلس الشيوخ، أن تأثير هذه الزيادة لوحدها، على ميزانية العائلات الفرنسية، سيكون كبيرا، ما بين 207 و538 يورو سنة 2022 (بحسب نوعية السيارات والمسافات التي تقطعها).
إذاً، فتأثير هذه الزيادات على الإيكولوجيا ليس كما يروج له. وتكفي قراءة مشاريع قوانين المالية الفرنسية لمعرفة الحقيقة. إذ إن قسما صغيرا من هذا المبلغ المحصَّل سيُوجَّه نحو البنى التحتية في الطرقات وسكك الحديد (نحو 3.2% من TICPE سنة 2019، أي ما يعادل 1.2 مليار يورو)، في حين أن تمويل التحول الإيكولوجي لن يحظى سوى بـ19.1% من TICPE سنة 2019، أي 7.2 مليارات يورو.
ويستفيد من هذه الضرائب تمويلُ مبادرات تطوير الطاقات المتجددة، وهو حساب استفاد، سنة 2017، من 6.983 مليارات يورو، من المال العمومي. 3 أرباع النفقات مكرَّسة لدعم الطاقات المتجددة الكهربائية.
وفي التفاصيل، فإن المستفيد الأكبر هو فرع الفولطاضوئي، حيث يحصل على 3 مليارات من المساعدات، فيما يتلقى فرع الطاقة الريحيّة نحو مليار ونصف مليار يورو، وهو مبلغ قابلٌ للزيادة إذا سُمحَ لأوراش الأطلسي الستة بالاشتغال. وهو ما يعني أن الفرنسيين يدفعون، أيضاً، عبر هذه الضرائب على المحروقات، ثمنَ الكهرباء، لأنهم يموّلون الإضافي المطلوب من أجل كهرباء خضراء.
وفي المجموع، فإن أقل من 20%، فقط من الضرائب على المحروقات هي ما يَخدُمُ هَدَف الوصول إلى طاقة أكثر نظافة. أما ثلث ما يُحصَل عليه من خلال TIPCE، فهو مخصص للجماعات المحلية، عبر تمويل المساعدات الاجتماعية. وهو نوع من تعويض الدولة لهذه الجماعات. غير أنه يلاحَظ غياب أي هدف إيكولوجي خاص.
وأخيراً، فإنّ الموازنة العامّة للدولة، هي الرابح الأكبر من هذه الضرائب، إذ ستتلقى، في السنة القادمة، مبلغ 17 مليار يورو. ومن المؤكد أن الدولة ستمول مباشرة، مبادرات أخرى في سياستها الإيكولوجية، ومن بينها أموال موجّهة لحماية التنوع البيولوجي وسلامة البيئة والتحكم في البيئة.
لكن، وكما هو شأن الضريبة على القيمة المضافة، فإن الضريبة على المحروقات، التي يتم تحويلها للدولة، تستخدم، دونما تمييز، في التعليم والدفاع والديون والنفقات العمومية.
ويحاول برونو لومير، وزير الاقتصاد الفرنسي، أن يشرح للفرنسيين أين سيتم إنفاق هذه الزيادات، فيكشف أنها ستعزز تخفيف الضرائب على الانتقال الإيكولوجي، إضافة إلى منحة التحوّل الطاقوي نحو شراء سيارة أقل تسببا في التلوث، وهو ما يعزز هذه الموازنة بـ182 مليون يورو حتى تصبح 570 مليون يورو.
لكن هذا يظل مبلغا متواضعا، إذ لا يمثل سوى 5% من فائض 3.7 مليارات يورو التي يتوقع جنيُها هذه السنة. وهو ما يُعيدنا إلى تساؤل المواطنة الفرنسية التي أطلقت حملة التواقيع، عن المجالات الذي ستُصْرف فيها هذه الزيادات الجديدة، والأخرى القادمة. فإذا كانت ضريبة TIPCE لا تموّل سوى نزر قليل من سياسَة الانتقال الإيكولوجي، فإن الزيادات الجديدة لن تُفيدَ الإيكولوجيا، إلا بدرجة أقل، إذا استثنينا طابَعَها الزجري.
مبررات الحكومة وإجراءاتُها غير المقنعة للكثيرين
لا يخفى على أحد أن الرئيس الفرنسي يريد، بقوة، أن يغير الكثير من عادات الفرنسيين، بخاصة في مجال البيئة والطاقة، وهو ما كرره وزير الموازنة، جيرار دارمانان، حين اعترف بأنه "مع الزيادة في الديزل، نأمل بتغيير عادات المواطنين، ولذلك فإن تقديم مساعدة مادية على إحداث هذا التحول، هو الحلّ في نظر الحكومة".
ولا يتوقف أعضاء الحكومة، في تبادل للأدوار، عن الثناء، ليس على الصكّ من أجل الوقود (20 يورو، شهريا، لكل سيارة قطعت بصاحبها 30 كيلومترا من أجل العمل)، الذي سيتم توزيعه على الأسر الفقيرة، كما صرح الرئيس الذي فوجَئ بحجم عداء الفرنسيين لهذه الزيادات، التي كان ينادي بها وزير البيئة المستقيل، نيكولا هولو، وهو من أكثر سياسيي فرنسا شعبية، وإنما المنحة من أجل التحول، التي تُقدِّم بضعة آلاف يورو لمن يتخلص من سيارته الملوِّثة من أجل شراء سيارة أكثر "خضرة"، بما فيها السيارات المستَعمَلة.
ولا يخفي وزير الاقتصاد الفرنسي أن العملية عرفت نجاحا فاق التوقعات، حيث استفادت منها، سنة 2018، نحو 250 ألف عائلة، 70% من هذه العائلات معفاةٌ من الضريبة على الدخل، وهو ما قاد الحكومة لتمديدها. وتتلخص المبادرة الحكومية في منح هذه العائلات ما بين ألف وألفَي يورو، وتصل حتى 2500 يورو مقابل شراء سيارة كهربائية أو هجينة.
وليس سرا أنه ليس بإمكان معظم الفرنسيين شراء هذه السيارات الكهربائية والهجينة، حتى وإن كانوا واعين بأهميتها، والحكومة على وعي بهذه الحقيقة. ولهذا تحاول الضغط على صانعي السيارات من أجل المساهمة في هذا المجهود، وذلك عبر تخصيص شركات صناعة السيارات مِنَحَها الخاصَّةَ لهذا التحوّل. وهو ما يتطلب وقتا طويلا، لن تُرى نتائجُه على المدى القريب.
كثيرون، أيضا، من المواطنين الفرنسيين، يوافقون رغباتِ الرئيس ماكرون الإيكولوجية، ويؤيدون هذه الزيادات، ولا يخفون رؤيوية ماكرون، فيما يخص المستقبل، الذي سيكون قاتما إذا لم يُغيّر البشر من عاداتهم، بخاصة في مجال السيارات الملوِّثة.