في ذلك البيت الجبليّ، على طاولة غرفة الطعام الكبيرة، طرازها أوروبيّ قديم، إنكليزيّ على أغلب الظنّ، رُصِفت ثلاثة آلاف قطعة صغيرة من الكرتون المقوّى. في مجموعات، قُسّمت تلك القطع المرّبعة الدقيقة والمفلطحة وفقاً لألوانها المختلفة وتدرّجات تلك الألوان، في حين أتى حجمها واحداً. وسط تلك المجموعات التي تعدّدت، رُكّز لوح خشبيّ ثخين بعض الشيء، فقط في حال مقارنته مع تلك القطع الصغيرة الرقيقة، طوله مائة واثنان وعشرون سنتيمتراً وعرضه خمسة وثمانون سنتيمتراً.
يومياً، عند انحسار حدّة القصف، كان الرجل الذي اقترب من خمسينه ينهمك وواحد من أولاده الثلاثة في تركيب جزء من تلك الأحجية. هي أحجية صور مقطّعة. هذه هي التسمية العربيّة لما اعتاد ذلك الرجل أن يطلق عليه "بازل". ولده الذي كان يشاركه انهماكه، لا بل أولاده الثلاثة كلّهم يطلقون اسم بازل على تلك اللعبة - الأحجية. جميعنا يفعل.
وبازل كلمة إنكليزيّة وُثِّقت للمرّة الأولى في أواخر القرن السادس عشر، بحسب ما يفيد قاموس اللغة الإنكليزيّة المرجعيّ الصادر عن جامعة أوكسفورد البريطانيّة، وهي الجامعة الأقدم في العالم الغربيّ. وتلك الكلمة التي ظهرت في البداية كفعل، نذكر من مرادفاتها المحتملة أربك وشوّش وبلبل وحيّر وأذهل وما إلى ذلك.
لسنا وحدنا من يستخدم كلمة بازل، الفرنسيّون يفعلون كذلك، علماً أنّها ليست من مفرداتهم. ويحوّر هؤلاء طريقة لفظها، حتى تكاد تظنّها مفردة أخرى للوهلة الأولى. شعوب أخرى تقوم بالمثل. أمّا نحن، فنحرص على نطقها تماماً كما لو كانت من مفردات لغتنا الأمّ. في ملاحظة على الهامش، يوافق اليوم العالمي للغة الأمّ في الواحد والعشرين من فبراير/ شباط. ويُصار إلى الاحتفال به في وقت بدأ اندثار لغات أصليّة كثيرة وتهديد أخرى يقلقان لغويّين ومؤرّخين ومتخصّصين في الفنون والثقافة والأنثروبولوجيا وآخرين. فالأخطار تستهدف الإنسان بذاكرته وتقاليده وتراثه وإرثه وروحه وأصالته.
في يوم، سقطت قذيفة على مقربة من ذلك البيت الجبليّ. تحطّم زجاج النافذة القريبة من الطاولة ذات الطراز الأوروبيّ القديم، ونُثرت شظاياه في المكان فغطّت اللوح الخشبيّ وقطع الكرتون المقوّى. بأعجوبة، نجا الرجل الذي ظنّ أنّ الهدنة سوف تطول فغاص في تركيب بعض من تلك البازل. هو نجا، لكنّ واحدة من قطع الكرتون المقوّى الصغيرة ضاعت بين شظايا القذيفة والزجاج، فخلّفت فراغاً في اللوحة التي تشكّلت من ألفَين وتسعمائة وتسع وتسعين قطعة مربّعة دقيقة ومفلطحة. لم يشأ الإبقاء على ذلك الفراغ، ففصّل قطعة صغيرة ولوّنها ورتق اللوحة قبل أن يعلّقها في بيت العائلة الجبليّ.
أمّا نحن، فنحاول رتق بعض منّا وقد أخفقنا في جمع أنفسنا قطعة قطعة.