غير أن فلاح يعيش في عالم آخر كما يقول والده، منعزلاً عنهما، رغم أن سقف نفس المنزل يجمعهم، نظراته الغريبة توقظ حزن والديه وهما يحاولان بأية طريقة إدماجه في المجتمع.
يقول حسن علي، والد فلاح، لـ"العربي الجديد": منذ أن بدأ خطواته الأولى لاحظت عليه علامات غريبة، فهو لا يكاد يشعر بوجودنا حوله، ولم تكن نظراته تنم عن شعوره بما حوله حين نحتضنه أو نقبله أو نلعب معه".
ويضيف الوالد: "بعد زيارات عديدة إلى أطباء مختصين، علمنا أن طفلنا مصاب بالتوحد، وعلينا تقبل الأمر بصبر ومثابرة، بل والتقرب منه أكثر لدعمه نفسيا ومعنويا".
ليست حالة فلاح الوحيدة، ولعلها تختلف عن حالة عبد الله (10 أعوام)، الذي بدا طبيعياً خلال سنواته الأولى، لكنّ والديه لاحظا تغيراً في تصرفاته بعد سنواته الست، وشروداً واضحاً، وكأنه ليس معهما.
يقول محمد مرضي، والد عبد الله: "بعد مراجعاتنا للطبيب لمعرفة حالته وكيفية علاجها، وجّه إلينا إرشادات، وأخبرنا أنه علينا الالتزام بها حرفياً لمعالجة عبد الله، ومنها إغلاق التلفزيون والحاسوب في المنزل وعدم استخدام الهاتف أمامه، وضرورة الإكثار من احتضانه وتقبيله والتكلم معه باستمرار، حتى لو كان يظهر عدم الاستجابة".
ويتابع مرضي: "كما وجهنا إلى ضرورة اصطحابه خارج المنزل ودفعه إلى الاحتكاك بالأطفال واللعب معهم، ومنعنا من إعطائه المنتجات الصناعية المخصصة للأطفال، والتي تحوي أصباغاً صناعية، والتزمنا بما قاله الطبيب ولاحظنا تحسناً كبيراً عليه الآن".
ويلفت إلى أنه "لاحظ حالات مشابهة لدى الأقرباء والجيران تبين أن أسبابها الرئيسية ولع الأطفال بالألعاب الإلكترونية وأجهزة الحاسوب، والتي كانت سبباً في إصابة العديد من الأطفال بهذا المرض".
ومرض التوحد هو اضطراب في النمو العصبي لدى الطفل، ينجم عنه ضعف واضح في التفاعل مع المحيطين به سلوكياً أو لفظياً.
ويوضح طبيب الأطفال، باقر الصميدعي أن "هذا المرض ارتفعت نسبته أخيراً بشكل واضح، خصوصاً بعد دخول عالم الألعاب الإلكترونية والحواسيب والأجهزة المحمولة وولع الأطفال بها بشكل غير طبيعي".
ويقول الصميدعي إن "أحد أبرز أسباب إصابة الأطفال بالتوحد هو الساعات الطويلة مع الألعاب الإلكترونية، أو مشاهدة التلفاز أو اللعب بالهواتف، وهذا ما لا يدرك خطورته غالبية الآباء والأمهات".
ويتابع: "أجريت فحوصات على العديد من حالات التوحد، تبين أن من أسبابها الرئيسية ولع الطفل بالألعاب الإلكترونية بشكل غير طبيعي، وعدم انتباه الآباء إلى هذه الظاهرة الخطيرة، مما يجعل الطفل يعيش في عالم خاص يختلف عن عالمنا، وينعزل ذهنياً لتبدأ رحلة التوحد".
ويرى باحثون أن الشرود الذهني هو أولى مراحل الإصابة بالتوحد لدى الأطفال، وتأتي عبر خروج الطفل من الواقع إلى العوالم الافتراضية، إن لم يكن مصاباً بالمرض منذ ولادته، ويلفتون إلى أن الحرب كانت سبباً رئيسياً في رفع نسبة الأطفال المصابين بهذا المرض.
ويقول الباحث في علم نفس الأسرة والطفل، ميسر عبد الحميد، إن "الحرب كانت سبباً في رفع نسبة التوحد بين الأطفال بسبب القنابل والصواريخ والانفجارات المدوية، التي سببت خللاً في نمو العديد من الأطفال، وأصابتهم بالعديد من الأمراض النفسية المختلفة، وكذلك رفعت الألعاب الإلكترونية والحواسيب نسبة التوحد في العراق، فالطفل يدخل في عالم افتراضي وتنطبع في ذهنه صور خيالية لا يجدها في الواقع، مما يدفعه إلى الانعزال في عالمه الخاص".
ويوضح: "على الآباء والأمهات الانتباه إلى أطفالهم ومنعهم من قضاء أوقات طويلة أمام التلفاز أو الألعاب الإلكترونية، فهي خطيرة ويجب دمجهم في المجتمع لمنعهم من الشرود الذهني، الذي قد يؤدي إلى التوحد".
ويشير الخبراء إلى أنه لا توجد إحصائيات رسمية حول عدد المصابين بالتوحد، لكن التقديرات تبين أن المصابين لا يقلون عن 6 آلاف طفل في عموم العراق.
وكانت جامعة كامبريدج البريطانية قد نشرت دراسة خاصة عام 2011، كشفت فيها إصابة 75 طفلاً عراقياً بالتوحد من بين كل عشرة آلاف طفل، فيما كشفت دراسة أخرى نشرتها جامعة غيلفورد الأميركية عام 2012 أن أكثر من 5 آلاف طفل عراقي مصابون بالتوحد بسبب الحرب.
وتعد الدراستان أبرز ما نُشر عن هذا المرض، بحيث لا توجد في العراق مراكز متخصصة بالتوحد وعلاجه حتى الآن.