لم نكن نملك الشجاعة، عندما كنّا فوق العاشرة بقليل، لاقتحام تلك الدكنة الفاصلة بين قريتنا والنهر، نهاراً، إلا بمعيّة من هم أكبر سناً. فأشجار السيّال والسنط والحراز كوّنت كتلة من "الأكاشيا" المتلاحمة في حميمية تعبّر عنها الطيور التي لا تسكت شقشقتها، ولا تسكن حركتها بين الأغصان، وكذلك الأرانب البريّة التي تقفز هنا وهناك بين الأغنام السارحة، وقد تُصادف كذلك ثعلباً يتربّص بفريسته. وشدّ ما كان يخيفنا أن نطأ مُندسّاً بين الأوراق والأزهار المتساقطة، غصناً من الشوك أو حيّة أو عقرباً أو حتى فرخ طير سقط من عشّه وهو يحاول الطيران أو الهرب من مفترس ما.
اليوم، حين نردد مثل تلك الحكايات والصور، يظنّ سامعونا من الأجيال التي لحقت بنا أنّنا ننقل صوراً عن أزمان غابرة وليس حقائق عشناها قبل أربعة عقود من الزمن. حينها، لم تكن كوارث غابات السودان ومحنها قد بدت للعيان، مثلما يقول المستشار في مجال الغابات البروفسور طلعت دفع الله، وهو يرصد التشريعات والقوانين المتلاحقة والممارسات غير الرشيدة التي أضرّت بموارد الغابات منذ إقرار قانون إدارة المديريات في عام 1960، حين تمّ تسليم أمر الغابات إلى المجالس التنفيذية للمديريات فأساءت استخدامها بدلاً من تنميتها وتطويرها ومواصلة حمايتها، فصارت بالتالي مورداً للإيرادات. ثمّ جاء قانون الحكم الشعبي المحلي في عام 1971 ليزيد من سلطات المديريات على الغابات، فشهدت تلك الفترة تدهوراً مريعاً في الغابات. ومع تتالي التشريعات والقوانين، ظل مسؤولو هيئة الغابات القومية يرفعون المذكرات والدراسات للسلطات، إلا أنّها أُهمِلت في ظل التخبّط الإداري والتعجّل في إصدار التشريعات والتوجيهات السياسية من دون مشورة أهل الشأن البيئي والغابي.
اقــرأ أيضاً
على الرغم من أنّ ثمّة نصاً دستورياً يلزم بالتعامل الرشيد مع البيئة عموماً والغابات خصوصاً، بوصفها خط الدفاع القومي الحامي من زيادة التصحّر، فإنّ التوجيهات الملحقة بالقوانين لم تُطبَّق، واستحوذت الولايات علي إيرادات الغابات من دون المشاركة في زراعتها أو إعادة زرعها. وتدهور المورد ليصير تصنيف السودان من ضمن الدول ذات الغطاء الغابي الشحيح.
يتواصل التعدي، والشاهد على ذلك ما تأتي به ولايتا سنار والنيل الأزرق اللتان تشرعان في تحويل غابات السنط النيلية إلى مزارع إنتاج محاصيل بستانية من أجل العائدات المالية السريعة، وفقاً للتوجيه الرئاسي باستثمار المساحات غير المنتجة. فهل هي غير منتجة حقاً؟ أم أنّ الإنتاج يعني عائدات مالية لخزائن الولايات؟
للخروج من هذا المأزق والنفق المظلم، يؤكد البروفسور دفع الله أنّه لا بدّ من إعادة النظر في النموذج الحالي لإدارة موارد الغابات، ويقترح مواصلة الحوار الذي انفتح حول الأمر برعاية مؤسسات أكاديمية مثل جامعة الخرطوم. فهل تثمر هذه الجهود؟ وهل نتمكن من إعادة جزء من غابة جدّي؟
(متخصص في شؤون البيئة)
اليوم، حين نردد مثل تلك الحكايات والصور، يظنّ سامعونا من الأجيال التي لحقت بنا أنّنا ننقل صوراً عن أزمان غابرة وليس حقائق عشناها قبل أربعة عقود من الزمن. حينها، لم تكن كوارث غابات السودان ومحنها قد بدت للعيان، مثلما يقول المستشار في مجال الغابات البروفسور طلعت دفع الله، وهو يرصد التشريعات والقوانين المتلاحقة والممارسات غير الرشيدة التي أضرّت بموارد الغابات منذ إقرار قانون إدارة المديريات في عام 1960، حين تمّ تسليم أمر الغابات إلى المجالس التنفيذية للمديريات فأساءت استخدامها بدلاً من تنميتها وتطويرها ومواصلة حمايتها، فصارت بالتالي مورداً للإيرادات. ثمّ جاء قانون الحكم الشعبي المحلي في عام 1971 ليزيد من سلطات المديريات على الغابات، فشهدت تلك الفترة تدهوراً مريعاً في الغابات. ومع تتالي التشريعات والقوانين، ظل مسؤولو هيئة الغابات القومية يرفعون المذكرات والدراسات للسلطات، إلا أنّها أُهمِلت في ظل التخبّط الإداري والتعجّل في إصدار التشريعات والتوجيهات السياسية من دون مشورة أهل الشأن البيئي والغابي.
على الرغم من أنّ ثمّة نصاً دستورياً يلزم بالتعامل الرشيد مع البيئة عموماً والغابات خصوصاً، بوصفها خط الدفاع القومي الحامي من زيادة التصحّر، فإنّ التوجيهات الملحقة بالقوانين لم تُطبَّق، واستحوذت الولايات علي إيرادات الغابات من دون المشاركة في زراعتها أو إعادة زرعها. وتدهور المورد ليصير تصنيف السودان من ضمن الدول ذات الغطاء الغابي الشحيح.
يتواصل التعدي، والشاهد على ذلك ما تأتي به ولايتا سنار والنيل الأزرق اللتان تشرعان في تحويل غابات السنط النيلية إلى مزارع إنتاج محاصيل بستانية من أجل العائدات المالية السريعة، وفقاً للتوجيه الرئاسي باستثمار المساحات غير المنتجة. فهل هي غير منتجة حقاً؟ أم أنّ الإنتاج يعني عائدات مالية لخزائن الولايات؟
للخروج من هذا المأزق والنفق المظلم، يؤكد البروفسور دفع الله أنّه لا بدّ من إعادة النظر في النموذج الحالي لإدارة موارد الغابات، ويقترح مواصلة الحوار الذي انفتح حول الأمر برعاية مؤسسات أكاديمية مثل جامعة الخرطوم. فهل تثمر هذه الجهود؟ وهل نتمكن من إعادة جزء من غابة جدّي؟
(متخصص في شؤون البيئة)