لنكن كلّنا ثقة. سنّه الصغيرة لا تمنعه من تمثيل تهديد حقيقيّ وخطير، وهي بالتأكيد لن تمنعه مستقبلاً من تدمير حياة أحدهم.
أيّ من الوالدَين لن يرغب في تصديق إمكانيّة ارتكاب صغيره "البريء" مثل ذلك الفعل الشنيع. البراءة واحدة من أبرز صفات الأطفال، لا بل هي الصفة الأولى الملتصقة بفئتهم العمريّة تلك. ونقول بـ"براءة الطفولة".
أيّ من الوالدَين لن يدرك "حقيقة" صغيره. لن يدركها ولو بمساعدةٍ متخصّصةٍ، ولو أكّد له الجميع ذلك بالأدلّة والبراهين. أيّ منهما لن يرغب في تصديق إمكانيّة تلاعب ولده به وابتزازه عاطفياً. "الابتزاز" بحدّ ذاته مصطلح ثقيل. نضيف إليه صفة "عاطفيّ"، ونتخيّل كيف يكون. الابتزاز تهديد، مباشر أم غير مباشر، يؤدّي إلى التدمير. الابتزاز العاطفيّ تهديد ينتهي بتدميرٍ، هو الأشدّ وقعاً وإيلاماً.
إذاً، يبدأ الابتزاز العاطفيّ في سنّ مبكرة جداً. الوالدان، هدفهما جعل صغيرهما سعيداً ومكتفياً. هدفهما ألا يعيش ما خبراه هما من "منغّصات" خلال طفولتيهما، أو ما ظنّاه كذلك. هما يحزنان إن رأياه حزيناً. ويدخلان في الدوّامة. فتُمّحى الحدود وسلطتهما عليه. لا تنتهي الدوّامة هنا. من يرتكب الابتزاز العاطفيّ مرّة، لا شكّ في أنّه سوف يعيد الكرّة مرّات ومرّات وإن اختلفت هويّة ضحيّته. تلقائياً، وعلى مدى سنيّ حياته، يستشعر مرتكب الابتزاز العاطفيّ مَن هي ضحيّته المثلى. ويمضي في تلاعبه.
من يرتكب الابتزاز العاطفيّ له شخصيّته الخاصة. ومن يقع ضحيّة الابتزاز العاطفيّ له شخصيّة خاصة كذلك. شخصيّتان تغذّيان بعضهما بعضاً. ويتفاقم ذلك الابتزاز كلّما استسلمنا لذلك التلاعب فينا. نشعر بأنّنا عاجزون عن صدّ ذلك التلاعب، فتختلّ ثقتنا بأنفسنا ونشعر بذنب وبـخيبة وبأسى خانق.
نحن نخاف خسارة حبّ الآخر. قد يكون ذلك الآخر ابناً أو أماً أو شريكاً/حبيباً أو صديقاً أو حتى زميلاً. نحن نخاف الظهور أنانيّين، فنجهد للتأكيد على أنّنا كلّنا مشاعر ووفاء تجاه ذلك الآخر. نحن نخاف لا بل نجزع من خسارة حبّ ذلك الآخر، فيتعاظم سلطانه علينا. ونتضعضع، فينتابنا شكّ.. شكّ في أنفسنا. نتضعضع، فتُقوَّض صورتنا في قرارة أنفسنا. ولا تنتهي الدوّامة.
في داخلنا، في مكان ما في داخلنا، ندرك أنّ ذلك الآخر حصل على ما يريد من خلال "تهديد" مباشر أو غير مباشر. وندرك بالتالي أنّ الأمر ليس في أيّ حال من الأحوال دليل حبّ. نحاول طمس ذلك الإدراك وكتم ذلك الصوت الداخلي المنبّه، فنشعر بخيبة بيننا وبين أنفسنا. وندفن تلك الخيبة لنعيد الكرّة مرّة تلو أخرى. ولا تنتهي الدوّامة.