تكثر الوعود التي أطلقتها وزارة التعليم لحل مشكلة "المدرّسات المغتربات"، إلا أن شيئاً لم يتغيّر على أرض الواقع. ما زالت أكثر من 63 ألف مدرّسة سعودية يعانين كثيراً للوصول إلى مدارسهنّ في الساعة السادسة والنصف صباحاً. وتلك المدارس المشار إليها، لمن لا يعرف، تقع في قرى بعيدة. وهؤلاء المدرّسات يقضين أحياناً في الطريق ذهاباً وإياباً أكثر مما يقضينه في فصولهن.
كشفت دراسة أجرتها شركة متخصصة في التعليم أن متوسّط المسافة التي تقطعها المدرّسات المغتربات لبلوغ مدارسهن، تصل إلى 70 كيلومتراً. وتدفع المدرّسة الواحدة لسائق وسيلة نقل جماعية نحو 1700 ريال سعودي (453 دولاراً أميركياً) شهرياً كمتوسط، وهو ما يعادل 20% من أصل الراتب الذي تتقاضاه. ولا يقتصر الأمر على التعب والإرهاق فحسب، بل يتجاوزه أحياناً ليصل إلى حدّ الموت. خلال السنوات الماضية كان أكثر ضحايا الحوادث المرورية من المدرّسات.
معاناة كبيرة
تصحو المدرّسة هدى الزهير عند الساعة الثالثة فجراً، وتستقل حافلة صغيرة متهالكة لقاء ألفي ريال (533 دولاراً) شهرياً، لتصل إلى مركز عملها قبل الساعة السابعة بقليل. تروي لـ "العربي الجديد": "أقضي في السيارة يومياً ست ساعات، أي أكثر من الوقت الذي أخصصه لأبنائي الصغار". تضيف: "انتظرت تعييني أكثر من أربع سنوات. لكنه أتى في قرية الغبيرة، وأنا أنتظر البتّ في قرار نقلي. والقرية تبعد عن الدمام 320 كيلومتراً، وأنا لا أستطيع الانتقال للسكن فيها، بسبب عمل زوجي ومدارس أبنائي".
وتتكرر المعاناة على قدر عدد المدرّسات اللواتي عُيّنَّ بعيداً عن أماكن سكنهن. منى العوسجي مثلاً، من سكان الرياض وقد عُيّنت في مدينة المجمعة التي تبعد 280 كيلومتراً عنها. تقول لـ "العربي الجديد": "درست 16 عاماً لأحصل على وظيفة. وأتت الصدمة عندما أوفدتني الوزارة إلى منطقة بعيدة جداً. بسببها اهتزت كل حياتي. أنا مضطرة إلى بلوغ مدرستي في السادسة والنصف صباحاً، لذا أهملت أولادي وبيتي وكادت الأمور تصل بيني وبين زوجي إلى الطلاق أكثر من مرة". وتوضح أن "درجات أبنائي تراجعت كثيراً، لأن الأمر لا يقتصر على وصولي إلى المنزل بعد الخامسة عصراً، بل لأنني أصل مرهقة وأكون مضطرة إلى العمل والتحضيرات".
شبح الموت
السفر على الطرقات الرديئة جعل المدرّسات عرضة لحوادث مميتة. وقد أظهرت دراسة أجرتها إدارة المرور السعودية أن أكثر من 35% من ضحايا السعودية في الحوادث المرورية هم من المدرّسين والمدرّسات، و28% منهم من الأخيرات. وشدّدت الدراسة على أن من أبرز أسباب تلك الحوادث هو "ضعف الرقابة على مركبات النقل الخاص وعدم الحزم في وقف السيارات المخالفة لاحتياطات السلامة عن العمل". وبلغت حوادث المدرّسات في العام الماضي 418 حادثة، كل هذا وسط صمت من إدارة التعليم ووزرائها المتلاحقين. ولم يصدر سوى تعليق واحد حول هذه الأرقام المخيفة، من قبل المدير العام لخدمات الطلاب سامي السعيد، أوضح فيه أن المدرّسات اللواتي يتعرّضن لحوادث مرورية في أثناء توجههن إلى مدارسهن أو العودة منها، تطبق عليهن التعويضات المالية في حالة الوفاة أو إصابة العمل. هذه التعويضات لا تتجاوز 100 ألف ريال (نحو 27 ألف دولار).
في هذا الإطار، يوضح المتخصص في التعليم محمد الثمري، وهو مدير إحدى مدارس الرياض، أن الخلل يكمن في منهجية الوزارة في التعيين، إذ هي تسعى إلى ملء الوظائف الشاغرة لا أكثر. ويقول لـ "العربي الجديد": "لدينا معاناة حقيقية، نتيجة سنوات طويلة من التعيين الخاطئ للمدرّسات. كانت الوزارة ترمي بهنّ في كل الاتجاهات، من دون أن تفكر جدياً في تعيينهن في المناطق القريبة من سكنهن. كان المسؤول يريد ملء الفراغات لديه بأي طريقة". يضيف: "الأمر فعلاً عجيب، ويجعلك تعتقد بأنه مدبّر. عندما ننظر إلى طلبات النقل، نجد أن تلك المنفذة لا تتجاوز 15% من المجموع. وهذا يؤدّي إلى استمرار المشكلة، أما الضحايا فالمدرّسات وعوائلهن".
من جهتها، لم تكن منيرة البوعنين محظوظة مثل منى العوسجي، إذ إن زوجها لم يقتنع بوضعها وخيّرها ما بين الطلاق أو الاستقالة. ولأنها لم ترغب في ترك وظيفتها التي انتظرتها نحو سبع سنوات، قرّرت الانفصال والتركيز على مستقبلها. تخبر "العربي الجديد" أن "تعييني جاء في قرية صغيرة وسط الصحراء، وهي منطقة تحتاج إلى رحلة تمتدّ أكثر من ساعتين على طريق غير معبّد". وتُحمّل وزارة التعليم مسؤولية "كل ما حدث معي. المدرسة القريبة من بيتي في الأحساء عُيّنت فيها مدرّسات من جدة والرياض، فيما أنا ابنة المدينة رميت في قرية صغيرة لا يتجاوز عدد تلميذاتها 32 تلميذة".