"مع الحبّ الأموميّ، تقطع الحياة لنا وعداً ولا تفي به أبداً. في كلّ مرّة تحضنكَ امرأة وتضمّكَ إلى قلبها، لا يتعدّى الأمر كونه مجرّد مواساة. ونعود دائماً إلى قبر الأمّ لننتحب مثل كلب تخلّى صاحبه عنه، ونصيح: أبداً وأبداً وأبداً. ذراعان جميلتان تلتفّان حول عنقكَ وشفتان رقيقتان تحدّثانكَ عن الحبّ. أنتَ على علم بذلك. مبكراً جداً، بلغتُ النبع وعببتُ كلّ شيء. وفي كلّ مرّة ينتابكَ العطش مجدداً، تحاول البحث عبثاً في كلّ مكان. لا آبار... مجرّد سراب".
بتلك الكلمات يُختتم الفيلم السينمائيّ "وعد الفجر" الذي يصوّر سيرة رومان غاري، الروائيّ والدبلوماسيّ الفرنسيّ. الفيلم الذي يحمل عنوان واحدة من رواياته، يسرد تلك العلاقة الإشكاليّة بين رومان وأمّه نينا مذ كان طفلاً صغيراً في بولندا وصولاً إلى وفاتها وثمّ وفاته. إلى حين انتحاره في السادسة والستّين من عمره، كانت تلك العلاقة لا تزال قائمة ومتّقدة.
لا بدّ من أنّ مشاعر متناقضة تتقاسم مُشاهد الفيلم. غضب إزاء الأم المتحكّمة بذلك الصبيّ الصغير وبالمراهق وبالشاب وبالرجل البالغ. حنق على رومان المستسلم لها. أسى على الصغير - والكبير لاحقاً - ضحيّة تلك الأمّ المتسلّطة. شفقة على نينا التي لا تبدو بأيّ حال من الأحوال وكأنّها تسعى إلى إلحاق الأذى بابنها. فهو كلّ ما لديها في الدنيا. بهدف توخّي الدقّة، هو دنياها وهي التي جعلته يكون... شهرته وتلك النوبات التي لم تُشخّص أو التي لم يكشف أحد عن طبيعتها.
لبرهة، أو أكثر، ربّما نشعر بذهول أمام ما ارتكبته نينا في حقّ رومان، وربّما ندينها. أكثر من ذلك، ربّما نحاول تشخيص حالتها النفسيّة العقليّة التي جعلتها تُقَولب صغيرها وإن دفعته إلى التحليق عالياً. نشعر بالذهول. يبدو أنّنا لا ندرك أنّ ثمّة نينا في كلّ أمّ من الأمهات بيننا، وأنّ ثمّة رومان في كلّ ابن أو ابنة من الأبناء بيننا. تتفاوت الحالات حدّة، غير أنّها قائمة. بصمة الأمّ لا شكّ في أنّها غائرة في نفس كلّ ابن أو ابنة. ربّما نعيش حالة إنكار أو ربّما لم يَرد الأمر في ذهننا قطّ، غير أنّ في ذلك حقيقة قائمة.
في عيد الأمّ، نرى الواحد منّا وهو يتغنّى بأمّه ويمتدح العلاقة الاستثنائيّة التي تربط بين روحَيهما. الاستثنائيّة لا تلغي احتمال السلبيّة، إذ إنّنا مسلّمون بالإيجابيّة. ونمتدحها. رومان كذلك امتدح تلك العلاقة التي ربطته بأمّه بأسلوبه الأدبيّ، غير أنّه في مرّات قليلة، يبدو وكأنّه أدرك "حقيقة سلبيّة" ما. ويقول في أحد مشاهد "وعد الفجر": "أظنّ أنّه لم يسبق قطّ لابن أن كره أمّه بقدر ما كرهتها في ذلك الحين". وذلك الحين يعني لمّا كانت نينا وفي خضمّ نوبة من نوباتها، ترسم له مستقبله لا بل تجزم بما سوف يكون. وهو يعدها بتحقيق ذلك.