تدور أحداث "الهجران"، الرواية الثانية للكاتب السوري سومر شحادة (1989)، حول شخصيات محورية وثانوية تُسيطر عليها سمة الهجران؛ فهي إمّا مهاجرة أو مهجورة، والبنية السردية هنا مُسخّرة لتكريس سلسلة لا متناهية من الهجران الذي تعيشه الشخصيات وما تكابده من عزلة وتهميش، لتنتهي بقطيعة مع الآخرين ومع ذواتها، يُبرّر ذلك الإحساسَ العام بالسخط والميل إلى التهكّم للتخفيف من رداءة الحاضر المعيش.
فسَح الكاتب المجال في روايته (دار التنوير، 2019) للاستطرادات والحوادث الجانبية، غير مكترث بالتسلسل الزمني للأحداث، ليشرك القارئ معه في عملية التسريد، إذ لم يكن مشغولاً بتمتين الحبكة، بل اكتفى باستعادة الأحداث المنصرمة من خلال المواقف الآنية.
من الجليّ تخفُّف الكاتب من قيود العمل الروائي النمطي، وابتعاده عن ذاته، ليغوص في تفاصيل الحياة اليومية والعاديّة لشخصيات سقمت حواسّها، وارتضَت الدوران حول إخفاقاتها، ووجدت نفسها غير معنية بخوض مجابهات عديمة النفع، وهكذا ليس ثمّة أحداث مباغتة أو غير قابلة للتصديق.
إذاً، لا شيء هنا سوى الهيمنة الكاملة لتفاهة وعبثية هذه الحياة التي لن تمنح شخصيات العمل غير المزيد من الظلم والهجران. منذ البداية، سعى الكاتب إلى نثر الحياة بأحداثها الباهتة والقوية معاً، مرتكزاً على ما هو متوقّع لدى القارئ، لكونه ليس غريباً عن زمن الرواية ولا عن مكانها. بمعنى آخر، عمل على تعزيز هذا الاستسلام، فتوارت الحبكة لتبرير سلبية ورضوخ الشخصيات وتردّيها طواعيةً في متاهات متوالية من الفقد والهجران في واقع لا يضنُّ بقتامته وانحطاطه عليها.
"عندما كانت الطلقات تستقر في ظهر والدي، كنتُ أطرق على جدار رحم أمي طالباً الخروج"، يقول زياد الذي قُتل والدُه توفيق في السجن قبل مجيئه إلى هذا العالم، فعاش حياته أسير طقس الهجران الذي تحياه والدته أيضاً. أمّا عزيزة، والدة زياد التي عاندت عائلتها من أجل حبّها غير المبارك من قِبلها لكون زوجها رجلاً يسارياً ومن خارج مدينتها، فقد فقدت زوجها لتتلبّسها حالة من الهجران والوحدة المختلطة بالغضب من زوجها الغائب الذي خانها؛ لأنه أحبّ أفكاره أكثر منها، فأصبحت أسيرة ذكريات تستعين بها لإمضاء الوقت: "كانت أحاديث عزيزة عن حلب، أحاديث عن النكران. لقد أنكرت أمّي حلب، وأعرف أنها لا تفكّر بزيارتها على الرغم من كلامها عن شوقها لها".
أمّا جوري؛ ففتاة تائهة عابثة ظنّت أنها قادرة على أن تعبث بالحياة فعبثت بها، حينما أدارت ظهرها لزياد الذي أبدى اهتمامه وإعجابه بها، ففضّلت عليه علاقة حب فاشلة مع عادل الرسّام المشهور، كانت جوري "تعيش طور التخفّي، ولا يجدر أن تصارع على الملأ"، أمّا عادل العائد إلى بلده كفاتح؛ فشخصٌ متكبّر وزائف وشى بأصدقائه قبل سفره. بدايةً، كانت لديه رغبة واحدة، وهي أن يعود ليموت في بلده سورية، إلّا أنه بعد عودته استعاد طبيعته المتعالية والمدّعية التي كانت تُخفي خلف هالة الفنان المشهور خواءً لا حدود له، تُرجِم في الرواية إلى رغبته القوية في استغلال وتحطيم من حوله، وتبدّى ذلك في سعيه الحثيث لاستدراج جوري الشابة الفاتنة إلى عالمه الزائف، مستغلّاً انبهارها بالهالة المبالَغ فيها، والتي حرص على صنعها حتى من قبل وصوله إلى مدينته، بالتخطيط لإقامة معرض مع مكتب في اللاذقية احتفاءً بعودته الحدَث.
في حين أن عبد الله، شقيقَ جوري، هو الخائب في الحب والتائه بسبب فظاعات حرب تركت آثارها عليه؛ إذ شاهد خلال خدمته في الجيش مئات الجثث، حتى إنه صار يُفكّر في الانتقال إلى جوارها، فأقدم غير نادم على الانتحار على قطع شرايين يده بغطاء علبة سمنة: "يحزّ شريان يده اليسرى بالغطاء النافر والقرنفل يسيل من مخيّلته ويجري في دمه، ثم يسيل مع دمه في شوارع اللاذقية، إلى أن يسند رأسه على سور حديقة المتحف الوطني ويغفو".
يلمس القارئ، منذ بداية الرواية، انهماكَ الكاتب بتوثيق التفاصيل الحميمة البسيطة كذكر أسماء الأماكن، الأبنية والشوارع والمقاهي، واستخلاص ما يعتبره قيماً عظيمة عن الحب والانتماء والكرامة الإنسانية، ولو أن فترة زمنية لا يُستهان بها تتجلّى كتاريخ ترك آثار تناقضاته الأزلية والمستجدّة التي تنبّأت بهزائم تفوق الانتصارات الخجولة التي تكاد تكون غير محسوسة من قبل المكوّن البشري للعمل.
ثمّة تقاطعات كثيرة تجمع بين القرّاء وشخصيات الرواية المحورية؛ لكونهم غير بعيدين عن الواقع المعيش، وهم يتناوبون الألم والإحباط والعجز فيما بينهم.
نجح الكاتب في خلق سلسلة من المواجهات ما بين الحاضر والماضي، وبين ما هو خاص وعام. غير أنَّ فُرص النجاة لشخصياته من مآزقها وصراعاتها تكاد تكون معدومةً، وكأن أيّ مقاومة لما يحدث ستكون بلا طائل وعقيمةً، كما في علاقة زياد مع والدته: "شعرتُ بأنها تُلقي عليَّ ميراثاً من ذنوب أجهل التعاطي معها".
ليس هناك أيُّ ذِكرٍ لأي تحديّات أو مبادرات حقيقية، ولا شيء سوى هزائم متنقّلة لشخصيات تؤثر التردّي في مفازات النسيان غير عابئة بما ستؤول إليه أقدارها. بما أنها شخصيات واقعية، فهي غير قادرة على التحكّم في ذكرياتها كما في حالة زياد الغارق في أحداث وذكريات ليست من صنعه، بل فرضتها الحالة العائلية المضطربة، والطفولة الكئيبة غير النمطية التي زادت من ثقل ذلك الإرث عليه، هذا بالإضافة إلى المتاعب المهنية والإخفاقات العاطفية.
ضبابية الحاضر الراهن اقتضت المعالجة بروح بسيطة، ولو أنها منكسرة، ولهذا الانكسار ما يُبرّره على المستوى الدرامي. يُحسَب للكاتب أنه لم يسعَ إلى إقحام ما لا ينسجم مع العمل كمحاولة لإحداث الاستثارة، إذ لم يكن هناك ما يستدعي ذلك، لكون الأحداث المتعاكسة قد فعلت فعلها في جعل أغلب الشخصيات غير قادرة على اتخاذ القرارات الحاسمة، إذ إنَّ هشاشتها لم تُسعفها في التمرُّد على ما تشهده من تقلُّبات في الزمن، ولو أننا نلمس تغييراً في شخصية زياد بعد وفاة والدته: "لا أريد أن أصير من أولئك الذين لا تعنيهم حيواتهم، وتدفعهم لا مبالاة الآخرين إلى لا مبالاة بأنفسهم، لا أريد أن أصير شبحاً".
وكأن الكاتب لم يساعد شخصياته على صقل ذواتهم، بل تركهم وحيدين، مفضّلاً الارتكاز على المونولوغات التأملية، والوصف الذاتي والوجداني الذي يدير الدفّة صوب ما يودّ الكاتب إضاءته من التاريخ الإنساني أكثر من تركيزه على الحدث، مُستخدِماً التحليل الذي يُغني عن اللجوء إلى الفرضيات الفلسفية أو النفسية التي لا تروق القرّاء عامّةً. وهكذا، لن يجد القارئ أيَّ صعوبة في استدراج العمل إلى عوالمه وتذوّقه جمالياً دون أن يضطرّ إلى إلقاء الأحكام التي ترهق النص.
* شاعرة من سورية