أطلقت الحريّة النسبية، التي أشاعها "الربيع العربي"، الألسنَ من عِقالها. فمن ثِمار الثورة التونسية إمكانية إخضاع السلطات العليا في البلاد للنّقد، بعد أن كانت، ولعقود طويلة، في مصافّ المحظور المُقدّس. واللافت أنّ نقد القيم السائدة توسّل سلاح الإضحاك الذي أطلق ألسنة السخرية، فنَشطت الدُّعابة كعنصر التزام بقضايا المُجتمع المدني، تستخدم وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي من أجل الانخراط في بناء تونس ما بعد الثورة وصنع مشهدها الثقافي- السياسي. وبمرور الأعوام، تشكلت مدوّنة ثرية، يمكن أن تشكل مادة للسؤال الاجتماعي والسيميولوجي والألسني، باعتبار الإضحاك فعلاً تواصليا يهدف إلى تغيير الواقع والفعل فيه.
وهذا بالذات ما تصدّى له الباحث التونسي مختار فرحات، الذي جهد في تشييد موضوع علمي واضح المعالم: الإضحاكُ بتجلياته الأربعة: الدعابة والمحاكاة الساخرة والتهكم والسخرية من الذات، مع ما بينها من الفوارق اللطيفة. وقد حلل مظاهرها في كتابٍ جديد بعنوان "الدُّعابة، المحاكاة الساخرة، السخرية في تونس ما بعد الثورة"، (الصادر في حزيران/ يونيو 2019 عن "دار لومبار- لوقا"، فرنسا). وقد حَبَّر الباحث الفرنسي باتريك شارودو، المتخصص في مجال تحليل الخطاب السياسي، تقديماً للكتاب، سبَق تصديرَ الباحث زين العابدين بن عيسى، وكلاهما قدّم لمفهوم السخرية وأهمية الدور الذي تلعبه، بتعبيراتها المختلفة، في بناء المشهد الثقافي.
استهلّ فرحات مُؤلَّفه هذا بفصل أوّلَ جعله تحليلاً للمفاهيم التي يشتغل عليها، وهو بمثابة توطئة نظرية خاض من خلالها في مفاهيم "الخطاب السياسي والديني والإعلامي والساخر"، في محاولة لبيان خصائص كلِّ واحد منها وما بينها من الفروق، مع أنها جميعاً صياغاتٌ تتوسل اللغة من أجل التأثير في الآخر. مما يؤكد أنَّ السخريّةَ نتاج مجتمعيٌّ بحتٌ: طرفاه مرسِلٌ ومخاطَبٌ، تربط بينهما علاقاتُ نفوذ ونزوع إلى التحرر.
وأما الفصل الثاني، فقد خصّصه للسخرية في الخطاب السياسي، وفيه طبّق المؤلف مقاربةً سيميولوجية وأخرى تلفظية، ذات أصوات متعددة، polyphone، حاول عبرها استجلاء الملامح التي ميّزت بعض خطابات الرئيسين الباجي قايد السبسي ومنصف المرزوقي، وما صاغته عنهما "القلابس" (الدمى الساخرة) من المحاكاة والدعابة. وعالج في الفصل الثالث السخرية ضمن الخطاب الديني السياسي، من خلال تحليل بعض مسرحيات الكوميدي التونسي لطفي العبدلي وبعض أعمال الممثلة وجيهة الجندوبي.
وتطرّق القسمُ الأخير إلى حسّ الدعابة والفكر التأسيسي من خلال كلمات الممثلين والمسرحيين الذين أطلقوا صرخاتٍ لاذعة حول الأحداث التي تلت الثورة التونسية. وقد اعتمدت هذه التحليلات، في قسم كبير منها، على تحليل نصوص المَشاهد المسرحية والمقاطع الفنية (من أغانٍ وكاريكاتورات، ورسوم ولافتات وغيرها)، وكلها ذات علاقة بالبعد السياسي.
فالكتاب إذن دراسةٌ في الإنتاج الفني الذي ظهر بُعَيد الثورة التونسية، رافَقَها وصنَعها. وهي تنصبُّ على الفن الكوميدي وسائر آليات الإضحاك وما قامت به من دورٍ في ترسيخ الثورة وصنع رموزها. ولم يكن ثمة من "جدٍّ أكثر جدية من السخرية" خلالها، لأنها تحولت إلى أداة جريئة تعرّي أكاذيب الرموز السياسية وتكشف مكامن الضعف في المجتمع، وتردَع مَن أراد "الضحك على ذقون الشعب". وصارت بفضل قدرتها على اجتذاب الجماهير من أقرب الأدوات إلى قلبه، وأسهمت في دمقرطة الفكر السياسي وتبسيطه ونشره بين العموم، وذلك بفضل المسرحيات الهازلة وألاعيب رسّامي الكاريكاتير، ثم بفضل مدوَّنة كاملة من النكات التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي وشكّلت هي الأخرى نصاً سريع الانتشار بين المتابعين، فأثّرت في اتخاذ قراراتهم الانتخابيّة مثلاً. وقد تجدر الإشارة هنا إلى تطوّر تقنيات التنكيت، من البنية السردية المختصرة المعروفة إلى فبركة الصور ووضع الأقوال على شفاه السياسيّين وصنع المواقف أو بالأحرى اصطناعها.
وقد أبان الكاتب أنّ مستويات الدعابة متفاوتة متداخلةٌ. ويمكن التمييز فيها بين أربعة: أولها السخرية وتتمثل في الالتفاف على المواضعات الرسمية والتظاهر بالموافقة عليها في حين أنّ الخطاب يَسخر منها ولا يعبأ بها. ثانيها استعادة ما قيلَ مع تَحويره تضخيماً وتهكُّما، وهي المحاكاة الساخرة. ثم عدم حمل الكلام مَحملَ الجِدّ، وهذا مقام التهكم. وأخيراً الاستهزاء بالذات حين تتّخذ السخرية من الذات مَوضوعاً. وقد مورست هذه الأنواع جميعاً في تونس بُعَيد الثورة بفضل أجواء الحرية النسبية التي توفرت للمجتمع المدني بما فيه من ممثلين وصحفيين.
وقد توقّف فرحات أكثر عند التقليد الساخر (parodie) الذي برع فيه فنّانون كثر ضمن استعادة ما حصل في تونس بعد 2011 على الصعيد السياسي والاجتماعي، بمنطق التقابل بين ثلاثية المواطنة التي بات التونسيون يحرصونَ عليها ويتشبّثون بها، ومن أجلها ثاروا، والسلطة التي أصبحت استحقاقاً لا مجرّد امتياز مطلق، والحدث السياسي وهو الرابط بينهما، وعليه المدار. وقد بيّن الباحث التونسي أنّ السخرية هي من تنظّم إيقاع هذه المكونات الثلاثة، مما يؤكّد أنها صارت عاملاً فاعلاً في النسيج المجتمعي، رهانُها تحريره من الأوهام.
وقد دلّل الباحث أنّ السخرية، بمستوياتها العديدة، أكانت تهكماً أم محاكاة، هي من أقرب الوسائل إلى الطبقات الشعبيّة وأيسرها وصولاً إلى ذائقتها؛ فهي تمتع الشعب، وتعينه على تجاوز أزماته المتعددة التي خلفها سوء التدبير، إلى جانب كونها تمده بصورٍ ساخرة عن الحُكام ومتاجري الدين ونواب البرلمان وتُسقط ما كان يحيط بهم من هالات التقديس، في خطٍّ يكاد يكون ثأرياً: الشعب يَسخر ممّن سَخر منه لعقود.
وهكذا، يمثل هذا الكتاب جولة في كافة أشكال الدعابة التي اتخذت من السلطات السياسية والدينية موضوعاً للانتقاد، عبر التهكم والتصوير الكاريكاتيري اللاذع الذي قد يضخّم العيوب فيصوّرها في شكلٍ يثير الضحك، وربما حتى الشفقة. إذ الهدف النهائي من السخريّة أن يُظهر الفنان أنَّ السلوكَ الذي ينتقده مُضحكٌ لأنه سخيفٌ. وسخافتُه هي التي تشرّع لهذه الأعمال الفنيّة ولضرورة تدخلها في صياغة خطابٍ ثانٍ، يوازي العمل السياسي ويُلاحقه ويَفضحه.
وقد شملت التحليلات التي أنجزها مختار فرحات هذه الأجناس الفنية، على اختلاف وسائلها وأدواتها، وغطت في توازن واضح بين الصور والكلمات والمشاهد والإشارات، لتكشف عن وَحدة عضوية عميقة: لم يعد المجال السياسي في تونس ما بعد الثورة مقدَّساً ولا محظوراً، كما كان الشأن في عهد بورقيبة أو بن علي. فلأول مرة في العصر الحديث، تخضع السلطة للسان الدعابة والاستهزاء، ضمن مسار نقدي صادر عن الشعب وإلى الشعب.
وأما المبدأ الحاكم لهذا النشاط التواصلي فَنَسف نظام القيم التي تحكم المجتمع التونسي ومَرجعياتِه. وهو ما يقتضي شيئاً من العنف، بحسب إشارة باتريك شارودو في المقدمة. إلا أنَّ هذا العنف، الذي يباطن السخريةَ، لا يهدف إلى الإيذاء، وهو الذي من أجله حرّمت الخطابات الدينية السخرية، وإنما إلى تحرير الوعي من الأوهام ووضع السلطة مَوضع المساءلة.
أخيرا، وبعيداً عن صفحات هذا الكتاب، تجدر الإشارة إلى أنّ الطبقة السياسية في تونس باتت تتعامل برحابة صدر مع السخرية وتتفاعل معها، كحال الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي وكثير من رؤساء الأحزاب اليوم، بعيداً عن تلك الصورة الأبوية الغارقة في التقطيب والهيبة اللذين عُرف بهما رئيسا تونس الأوّلان. كأنَّ سخرية بضع سنين خلخلت تشدد عقود طويلة.