عام 1913، اقترح رئيس الوزراء الإسباني فاوستين رودريغس سان بيذرو، أن يحتفى بهذا اليوم من كل عام، وهو ما حدث ابتداءً من عام 1914 وحتى أيامنا هذه، وإن كان الاحتفال به لا يتعدّى أسوار المدارس، لكنّ كولومبوس بدا وكأنه مكوّنٌ أصيل من مكوّنات الهوية اللاتينية.
ولأنّ ذلك اليوم يحمل أبعاداَ مختلفة عند شعوب القارة الأميركية، التي تختلف بطبيعة الحال عن سكان شبه الجزيرة الأيبيرية، كما يبدو جليّاً في الاسم المتغير للحدث الواحد؛ فإن إسبانيا تبدو فخورة بمنجزها هذا في فرض ثقافتها على "العالم الجديد".
في الأرجنتين أدرك الناس أنه لم يعد مقبولاَ الاحتفاء به تحت هذا الاسم فأوجدوا اسماً محايداً، ربما يسعى لإرضاء جميع الأطراف، إذا أطلقوا عليه "يوم احترام التنوّع الثقافي"، لكن فنزويلا ـ في عهد الرئيس الراحل هوجو شافيز ـ كانت أكثر وضوحاً في اختيارها اسم "يوم المقاومة الهندية"، لتحوِّل الاحتفاء بذلك المنجز "الهسباني" إلى انتصار لشعوبها الأصلية.
عن هذا الموضوع، استطلع "العربي الجديد" آراء عدد من المثقفين من مختلف بلدان القارة الأميركية، ومن مختلف الأجيال والاتجاهات السياسية والأيديولوجية.
من الباراغواي، يعتقد الكاتب ماريو كاسارتيللي أنه منذ وصول الغزاة المدعوٍّين خطأً بالفاتحين، وبلادهم في كارثة. فالنهب المتواصل للبلاد الخاضعة لهؤلاء اللصوص لا مثيل له في التاريخ.
مرّت قرونٌ منذ وصول الإسبان إلى القارة. تغيّر أسياد الأرض اليوم، لكن مؤامرات "الإمبراطوريات العظمى" لا زالت تحمل العقلية الاستعمارية نفسها مع تغيّر في الشكل والاسم فقط. وتابع أن هذا ما يحدث أيضاً في العالم العربي، وخصوصاً في فلسطين التي زارها سابقاً، وفي آسيا وأفريقيا، وأكّد أن هذا النهب لم يقتصر على الموارد الطبيعية بل طال الإنسانية.
وكان رأي الشاعر الباراغوايي روبيرتو ماسكارو، وهو الذي نقل أشعار ترانسترومر من السويدية إلى الإسبانية، أنه لا بد من عدم الاحتفال بذلك اليوم، فبدايةً لا يوجد ما يسمى بالأعراق، كما قال المفكر الكوبي خوسيه مارتي. وثانياً، هو يوم إبادة الشعوب الهندية. يجب القيام بإجراءات الطلاق مع المستعمر الإمبريالي.
نادية برادو من بوليفيا بدت أكثرهم حدّة في رفض الاحتفال بهذا اليوم، حيث رأت أنه لا بد من الإجابة على سؤال: لماذا نحتفل؟ فهذه الرحلة ـ جرت باتفاق بين "شركة كولومبينا" والملوك الكاثوليك ـ تندرج في إطار تأسيس العالم الجديد لتعميق قواعد "الإيمان". ولتمكين دولة وليدة من أن تفرض سيطرتها السياسية المسيحية وتعلن الحرب ضد "الكفار"، واضعةً السلطة السياسية العامة في حضن السلطة الإلهية.
ومن الطبيعي أن يفترض هذا النظام العالمي السياسي المسيحي، ممارسة الاضطهاد، والإكراه كي يسيطر على الشعوب الأخرى. لقد كان ذلك شكلاً من أشكال الدولة الحديثة القائمة على جمع الضرائب والثروات، إلى جانب محو عادات الوثنيين القديمة التي سبقت الاستعمار. وتتابع برادو أن هذه الرحلة تكشف عن وجهين: الأول هو ممارسة العملية السياسية اللاهوتية، والثاني ممارسة العملية التجارية.
والحالتان تنطويان على خضوع وتسليم الشعوب الأخرى للملكية الإسبانية من أجل انعاش الاقتصاد. من هنا صعدت الرأسمالية على شكل مصادرة الأراضي الجديدة، وأصبحت اللغتان التجاريتان هما الإسبانية والبرتغالية، مُتحقّقاً بذلك حلم الليبرالية السياسية والليبرالية الاقتصادية عن طريق انتشار المسيحية، وسلب الموارد المعدنية وحملها إلى البلاط الإسباني، ثم تشريع الاستعباد تحت ذريعة الدين وقدرة الرب اللامتناهية. وهذه نقطة تنطلق منها الرأسمالية القائمة على استعباد السكان الأصليين للبلاد من أجل تطوّرها وازدهارها.
وفي النهاية، تقول نادية برادو، لا يوجد ما يستحق أن نحتفل من أجله، بل من العار أن نحتفل بإبادة السكان الأصليين ونُهلّل لوحشية الغزاة.
الشاعر ميسيل بابلو من غواتيمالا يقول إنه درس ذلك اليوم في المدرسة على أساس أنه يوم التقاء الشعوب الأميركية، ودراسة الملامح المشتركة التي تجمع بين الأمم. لكنه يعتقد الآن أنه إحياء لذكرى الاستعمار وموت الكثير من السكان الأصليين للبلاد. وقلة من جيله تهتم بهذا اليوم، لا سيما وأن هناك حقداً كبيراً على هذه المناسبة من قبل السكان الأصليين الذين عانوا بسببه.
يشترك في هذا الرأي الشعراء مارفن غارسيا، وإدغار غارسيا، وكارلوس آدم غارسيا من غواتيمالا، الذين أجمعوا أنه احتفال بإبادة السكان الأصليين، ورفضوا تسمية "اكتشاف أميركا"، ذلك أن حضارتهم كانت مزدهرة قبل وصول الغزاة، ورفضوا أن يكون ذلك اليوم جزءاً من تعريف ذواتهم وهوياتهم.
الكاتب الشاب بيذرو تشابقخاي، وهو من السكان الأصليين في غواتيمالا، قال إن الاسم بحد ذاته عنصري، كما أنه يعيده لما مارسه الإسبان من إبادة وعبودية لأسلافه. أما الكاتب الشاب سلفادور مدريد من الهندوراس، فيرى أن الموضوع له عدة زوايا، إذ أخفى "المنتصرون" كلمة "مجازر" واستبدلوها بـ"اكتشافات". الأمر إذاً يتعلق بالقوة، إضافة إلى الثقافة وتوسّع البلاط الإسباني الذي فرض نفسه بالعنف.
أما الكاتبة الأرجنتينية أنا أنهولد، فتتفق مع الاحتفال بهذا اليوم تحت مسمّى جديد، وهو في الأرجنتين "يوم احترام التنوع الثقافي"، وتقول إنه في الوقت الذي تمت به الاكتشافات الأميركية، فإنه في مناطق أخرى من العالم لم يكن هناك ما يسمى بلقاء الثقافات، بل كان ذلك يتم عن طريق تدمير ثقافة الآخر بدلاً من الاندماج بها.
لقد تخلّص الإسبان من مخطوطات مهمة كثيرة تركها أهل البلاد على اعتبار أنها تجديفٌ بحق الإله. لذلك لا يمكن الاحتفال بيوم "العرْق"، بعد كل ما جرى من تدمير للثقافة، فالمحتل في أي مكان لا يأتي كي يتعلم من ثقافة البلد الذي يستعمره، بل العكس.
الكاتب النيكاراغوي ألفونسو موراليس، فضّل تسمية هذا اليوم بيوم مقاومة السكان الأصليين، مشيراً إلى أن ثقافتهم دُمّرت في نيكاراغوا بسبب الغزو، ووافقته مواطنته سعاد ماركوس.
في كوستاريكا التي بقيت فيها نسبة محدودة من سكان البلاد الأصليين، ترى الشاعرة باولا فالفيردي أليير أنه لا يوجد حدود بين البشر، وهي ضد استخدام كلمة "عرق"، فيما أكّد الشاعر خوان برنال أن الاسم قد تغير فعلاً في كوستاريكا إلى يوم "لقاء الثقافات"، مشيراً إلى التساوي بين الثقافات في ذلك وليس خضوع إحداها للأخرى.
وإذا كان رأي السلفادوري أندريس نورمان كاسترو يتوافق مع ما سبق بطريقة ما، فإن خورخي أوريانو، الذي يعمل في تنظيم أنشطة هذا اليوم في السلفادور، رأى أن اكتشاف القارة من قبل الإسبان أفضل من أن يكون من قبل الإنجليز، وأن الأمر كان اعتيادياً في تلك الفترة من الزمن، وتابع أنه في عام 1980، خرجت مسيرات واحتجاجات ضد الاحتفال بهذا اليوم، لكن المحتجّين كانوا أقلية وبقي الاحتفال حتى أيامنا هذه.
الشاعرة لوس كاستيانو، تعتبر أن هذا اليوم ليس مهماً وأنه كان صداماً بين حضارة وبرابرة، فقد ضاعت الثقافة والتاريخ، وكثير من العلوم القديمة، وخصوصاً في السلفادور حيث تمكنوا من محو الحضارة الأصلية. تفتخر كاستييون بدماء المايا التي تجري في عروقها وتقول إنه لو لم يكن الغزاة من الإسبان فبالتأكيد كان الغزو سيقع على يد شعبٍ آخر.
بلانكا لوس بوليذو من المكسيك ترى أنه الحديث في هذا الموضوع لم يعد له جدوى الآن، فالشعب المكسيكي خليط من كلتا الحضارتين، وليس مهماً العودة إلى طرح هذه المسائل الآن في ظل الظروف الاقتصادية والسياسية والتعليمية السيئة التي تمر بها بلادها. الأهم، في نظرها، هو الالتفات إلى الحاضر.