اختُتمت الأحد الماضي في مدينة وَجدة المغربية وقائع "المعرض المغاربي للكتاب"، بعد أيام خمسةٍ من النشاط المتنوّع وحضورٍ لافت لسائر الفئات العمريّة. جرت فعاليات هذا الملتقى تحت عنوان كَبير: "الإيصال من جيل إلى جيل"، ويشمل الإيصال، في هذا المنظور، المعارفَ والقيم والأشكال الجمالية. ويطمح موضوع هذه اﻟﺪورة اﻟﺜﺎﻟﺜﺔ أن يثير "إشكاليةً ﮐﻮﻧﯿﺔً ﺗﺪﺧﻞ ﻓﻲ ﺻﻤﯿﻢ اﻟﺒﻌﺪ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ، ﮐﻤﺎ ﺗﺤﺪوها اﻟﺮﻏﺒﺔ ﻓﻲ اﻟﺘﻔكير ﻓﻲ المغرب الكبير اﻟﺬي ﻧﺮﯾﺪ إﯾﺼﺎﻟﻪ وﺗﺮﺳﯿﺨﻪ ﻓﻲ أﻓﺮﯾﻘﯿﺎ وﻓﻲ اﻟﻌﺎﻟﻢ"، كما جاء في بَيان المنظمين وهيئتهم العلمية.
وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، شُيّدت هذه التظاهرة الثقافية على عماديْن: يتعلق الأول بتنظيم معرضٍ للكتاب، شاركت فيه دور نشر مغربيّة وعربية وأفريقية، وكانت الكاميرون ضيفَ شرف هذه الدورة، إلى جانب بعض الدور الفرنسية والإسبانية.
قد كان لهذا التنوّع أثره الواضح في نوعية الكتب المختارة، ومنها عُرضت آخر الإصدارات وأهم الكتابات في مجالي الإبداع والبحث، كما حَظي كتاب الطفل بمكانة لافتة تدعّمت من خلال حضور العديد من صفوف التلاميذ الصغار رفقة مُعلميهم للتجوّل بين أرجاء المعرض، وللاستماع إلى الندوات التي تناولت قضايا لغوية ومعرفية وتربوية، هدفها التوعية بأهميّة الفكر في زمن العولمة. كما حَظي الشباب بدوراتٍ توعوية عن القراءة، اعتصاماً بالكتاب حيال انتشار الجهل وقيم الاستهلاك وضمور الحس النقدي.
ومن جهة ثانية، تضمّن المعرض ستّاً وثلاثين طاولة مستديرة حول موضوعات تشمل الرواية والجوائز الأدبية واللغة العربية وعلاقة الأدب بالمعرفة والشفوية ودورَ المدرسة في التربية وأصول المواطنة والهجرة والقوميات والحركات النسوية وعلاقة الكتابة بالمكان وأشكال السرد والتصوف والهوية الإفريقيّة وغيرها... مما يؤكد ثراء المحاور المقترحة، بل وربما تضخّم موادها إلى درجة تَمنع هضمَ ما جاء فيها من الفرضيات والأطاريح. على أنَّ المهمّ في مثل هذه اللقاءات، كما ورد على لسان أحد الحاضرين الذين أعجبوا بتنوّع البرامج "هو إثارة الإشكالات أكثر من توفير الأجوبة وعَرض المعلومات"، وكان للحاضرين الحظّ الأوفى من مؤلِم التساؤلات.
إلى جانب حضورعالمي وازن (أسماء مثل باتريك شموازو، وفرنسواز فيرجيز، وسلوى بولبينة)؛ شارك في المعرض مثقفون وكتّاب عرب مثل: أحمد بيضون، ورشا الأمير، وسلوى بكر، وعلاء خالد، إلى جانب العديد من الروائيين العرب من الجيل الشاب ومنهم: طارق البكاري، وميلود يبرير، ووداد طه، ورؤى الصغير، وغيرهم كثيرٌ مما لا يسع المجال لذكرهم جميعاً، إذ تدخّل قرابة مائة وخمسين محاضراً، في مختلف فروع الفنون والآداب، ولكلّ نصيبٌ في تحريك الأشجان.
أديرت بعض هذه التظاهرات باللسان العربي، شكلاً ومضموناً، وأجري بعضُها الآخر بلسان موليير. وقد تركز هذا البعض على تفكيك الإرث الاستعماري والحفر في رواسب التاريخ وقطائعه المعرفية لحفز قضايا المواطنة وتطوّر الذات في جدلها مع الآخر. وكاد أن يُتهم المعرض بغلبة الفرنكوفونية عليه وجنوحه إلى النخبوية والتجريد، ولكنْ لن يفوت أنّ الأصل كان تنظيم فعّالياته بالفرنسية، لولا "نِضال" ثلّة من المنظمين في سبيل العروبة الثقافية، نضال أسفر عن إدماج ندوات بالعربية تتناول قضايا الحداثة وما بعدها، بهذا اللسان للتدليل على جدارة هذه اللغة في دخول خضم النقاش الثقافي حول الهوية والمستقبل دون عُقدٍ.
ولحسن الحظ، فإنّ "الآداب المغاربية"، التي نظمت هذه الدورة الثالثة، تقدّم نفسها كفضاء حرٍّ، تتجاور فيه لغات العالم وتتحاور، وإليه تدعو المثقفين والمفكرين والكُتّاب، من مختلف الأطياف للتعبير عن طموحاتهم وعوائق الانعتاق لَديهم.
من جهة ثالثة، تضمّنت هذه التظاهرة زيارات قام بها شعراء وروائيون إلى الثانويات والمؤسسات السجنيّة للحديث مع الطلبة والمساجين عن تصاريف الكتابة وأهمية القراءة من أجل دمج هذه الفئات في النسيج الثقافي وإعادة تأهيلها عبر الفنّ وما له من سحْر وحيرة، علاوة على قيمة المعرفة في صنع الإنسان المنفتح وضرورة الإيصال، ولو إلى السجون.
وأخيراً كانت ليالي وَجدة، تحت بدر تمامها، حافلةً بأمسيات الشعر حيث نُظمت أمسيتان كبيرتان لشعراء عرب (من بينهم نَجوان درويش من فلسطين وعلاء خالد من مصر ومصطفى بدوي من المغرب) وفرنسيين (من بينهم: جوليان بلين، وجوستان دولارو، وليندا ماريا باروس، وكريستوف مانون، وبنوا قصاص، وقد اتسمت قصائد بعضهم بتجريبيتها المفرطة ومَزْج الإلقاء الشعري بفن الأداء "البيرفورمانس") إلى جانب شعراء من العالم (ديمتريس أنغيليس من اليونان، وأنطوان قصّار من مالطا).
هكذا، كان هذا المعرض صورة ناطقة، بصدق، عن الشواغل الفكرية التي تحرّك المغرب الأقصى في طموحه إلى المساهمة في بناء المغرب الكبير، وركّز على حيوية اللغات فيه، والعلاقات المعقدة بين الفصحى والدارجة والأمازيغية، ثم علاقاتها جميعاً باللغات الأجنبية كالفرنسية والإنكليزية، وتصوير المتغيرات الاجتماعية التي طرأت على هذه البلدان وهي في طور التخلص من إرث الاحتلال وتفكيك محدداته في المعرفة والفن.
كما عكست فعاليات المعرض التجاذب الشديد الذي ما يزال يحكم مجتمعات هذا المغرب الفتيّ الطريّ بين النصوص التراثية ومتون الحداثة وما بعدها. وأثار سُؤال الجسد وحضوره في الفضاء الخاص والعام جدلاً ولاسيما خلال المحاضرات الاجتماعية التي أشارت إلى قضايا الجندر وما تستدعيه من تفكيك للبنى الأبوية والذكورية.
كما أظهرت هذه اللقاءات تناغماً بين الإبداع الأدبي والبحث العلمي في الاختصاصات الاجتماعية والتاريخية والفلسفية، وهذه أيضا صورة من صور التلاقي بين القوى المفكرة وطاقات الابتكار في مجتمعاتنا. برزت بعض الوجوه الجديدة التي لم يُسبق لها أن تحضر، وقطعت مع تقليد "المتدخلين النجوم"، وأُفسح المَجال للمبدعين الشباب للتعبير عن شواغلهم، وما يكابدونه من العوائق.
أقيم هذا المعرض في قلب مدينة وجدة المغربية، مما أتاح حضوراً لكل الفعاليات، داخل النسيج المدني، لا خارجه بمعزلٍ عن فضائه العمراني، وهو ما افترض التصاق هذه التظاهرة بالأهالي، حيث حضرها عامة الناس الذين تراهم يَخطرون بين أجنحة الكتب ويحضرون نقاش المنتديات في جلابيبهم البيضاء الواسعة: كأن لا قطيعة بين هويتهم الأصيلة وبين ما يستمعون إليه عن آخر النظريات والأنساق الفلسفية. ولكن يظل السؤال عن الأثر الفعلي للمؤتمرات، في أيّ أرض نظمت، في حركية تغيير التاريخ والتعبير عن علاقاته بالسلطة، في كل أقنعتها وعنفها الناعم.