كأن الزمن توقف في قرية "الدراويش"، هناك حيث حامد بطل رواية "أصوات" للروائي المصري سليمان فيّاض، الذي رحل عنّا أمس. فبالرغم من صدور الرواية قبل أكثر من أربعين عاماً (1972) إلا أن الذي يقرأها يجد راهنية في أحداثها وشخوصها.
يستخدم فيّاض شخصية "حامد" لكتابة رواية عن الغرب والشرق، إذ يقرر البطل العودة إلى قريته التي هرب منها صغيراً واستقر في فرنسا. يعود حامد إذن بصحبة زوجته الفرنسية "سيمون" الشغوفة باكتشاف القرية المصرية الصغيرة التي تمثل عكس كل حياتها الباريسية.
في الجزء الأول من الرواية والمعنون بـ عودة الغائب يصور لنا فيّاض من دون تعقيدات لغوية وهج لحظات الانتظار التي عاشها أهل القرية في انتظار حامد وزوجته الفرنسية سيمون، عاقداً المقارنات على لسان الراوي وهو مأمور القرية. نرى سيمون البسيطة المرحة المنفتحة ونساء القرية المنطفئات المحتجبات ورجال القرية الذين يتتبعون حركات سيمون وتصرفاتها.
بالنسبة لأهل القرية المتدينين تمثل سيمون فرنسا، ما يعيد إلى مجالسهم الحديث حول الاحتلال الفرنسي، لتظهر سطوة رجال الدين، التي لم تتغير كثيراً حتى اليوم، متمثلة في شيخ الجامع الذي يخبر أهل القرية أن الثأر من الفرنسيين ينتهي بعد سبعة أجيال.
أما في القسم الثاني "دوامات الدراويش" فيصف لنا الكاتب مشاعر الوافد القديم الجديد المتمثل في حامد. يدخل فيّاض صاحب "الصورة والظل" بطله في الصراع، هناك انتماءه لقرية الدراويش وهناك شخصيته الجديدة التي نشأت وكبرت في فرنسا. هناك العودة للجذور والفرح بالأهل والذكريات، وهناك الواقع المحمل بالعرق والأتربة.
سرعان ما تزول بهجة العودة، وتبقى لحامد عيناه اللتان تريان وتعريان الواقع القبيح. يقول حامد: "أزعجني الفلاحون وهم ما يزالون يعملون بأيديهم، جنباً إلى جنب مع الحمير والجواميس والبقر. وأزعجني مشهد القرى الطينية الواطئة المتلاحقة، والوجوه الذابلة السمراء المصفرة الممصوصة معلنةً عن الأنيميا والدوسنتاريا ونقص الهيموجلوبين وقلت لنفسي "هذا هو الوطن".
يأتي فيّاض في الفصل الثالث "مذكرات محمود بن منسي" ليركز جلّ اهتمامه على تصرفات سيمون واستقبال المجتمع لها. ويرصد التفاصيل الداخلية لحياة نساء القرية اللواتي اعتدن الحياة هكذا دون متعة، فقط حياة قائمة على العادة والتعود، ووجود سيمون الذي أجج مشاعر الغيرة والحقد عليها والرغبة الدفينة في تقليدها.
هذه المشاعر تتأجج حتى تصل إلى لحظة قتل سيمون في الفصل الأخير المعنون بـ "الحصار"، ومن يقتلها هن هؤلاء النسوة اللواتي يقررن ختانها في غياب زوجها وفي طقس شعبي مرعب، لتموت بين أيدي النسوة وهنّ يحاولن كتم نزيف جرحها بالبن وتراب الفرن.
ليس ثمة خلاصة أبلغ لاستعادة "أصوات" فيّاض من السطور الأخيرة للرواية، إذ يسأل الضابطُ الطبيبَ: "قل لي ما سبب الموت الحقيقي؟ كان الطبيب شارداً. فقال لي باضطراب، والدهشة مرتسمة على وجهه: نعم، آه.. موتنا، أم موتها؟!"