العزلة عزيزة على المثقف. كائن مُحبّب إليه. ليست مجرد حالة مُتوخّاة ونزعة طقوسية. ولأنها كذلك؛ يجاهر عدد من المثقفين بارتياحهم لها حتى لو اتخذت شكلاً من أشكال القسر والإجبار، ويعتنون بها بوصفِ كائنها: رفيقاً للتأمل والتبصّر، ومحفّزاً لمتواليات القراءة والكتابة والعمل الدؤوب، وما يتصل بها من فنون جمالية.
لكن هذه الصورة لا تحتمل التعميم، ولا يمكن لها أن تشكل مقاربة نمطية لسلوك المثقف في زمن الوباء. فالخوف الإنساني المشترك لبعضهم، قد يدفعهم للتصريح ضدّ العزلة. ثمة علل كثيرة لا يمكن تشكيل قناعة بها، منها: مراقبة الموت العالمي، ومراكمة القلق تجاه "هشاشة" الوجود برمّته. وكأن الموت، بصفته موتاً، حادثة جديدة، وكما لو أن اتسام الإنسان بالهشاشة يحدده فيروس بصيغة بيولوجية. وهنا تفتقد الثقافة معناها بوصفها تحريضاً على القوة، ومبعثاً للتماسك والاتزان.
علّة أخرى يمكن تصعيدها، والتعبير عنها على نحو أكثر جدارة مما يتداوله رعاة الأزمة في التعبير. وهي مطالبة تتسم بالترف: على العزلة أن تكتسب صفة الاختيار والطواعية إذ لا يمكن الذهاب إليها تحت وطأة عدو سائل، يخلي الشوارع بتوافق بين المجتمع والسلطة.
المثقف في مأزق مرة أخرى. مأزقه يشبه مأزق رجل الأعمال الذي بدأ يدعو إلى "مناعة القطيع" والتضحية في سبيل عجلة الإنتاج، ويشبه الداعية الذي يفتقد دوره في احتشاد الناس في صلاة الجماعة، ويشبه السياسي المستريح لبسط نفوذه عبر الأمن وتوظيفه لصالح صناعة بطولة المسؤولين، وتكريس فكرة كفاءة الحكومات.
المكان الحقيقي للمثقف، اليوم، هو في العزلة المنتجة. أما أن يأخذه التيار، وتأكله المخاوف، وينال منه الضجر فمعنى ذلك أن استثمار العزلة انزياح غير ممكن. وأن قيمته، وأدواته، ورؤيته، أقل شأناً من أن يتم الاستثمار بها.
* شاعر من فلسطين