قبل أربعٍ وعشرين سنةً، أصدرت الكاتبة الفرنسية الأميركية سوزي مورغنسترن روايةَ: "رسائل حب: من صِفر إلى عَشر"، تروي فيها قصةً فتاة يانعةٍ، ذات عشر سنوات، تنتقل إلى مدرسة جديدة إثر ارتحال أبَوَيْها إلى مدينتها. وفيها صادفت الطفلَ إرنست، ذا العشر سنوات أيضاً، وقد قضاها في فراغٍ مُطلقٍ، إذ فارقت أمُّهُ الحياةَ يومَ ولادته، كما غاب أبوه فلم يعد يُعلم له مقرٌّ ولا مصير.
كانت حياة إرنست مُملّةً، عاشها مع جدّته "نفيسة"، يقضيها بين النوم والمدرسة وأداء الواجبات، فضلاً عن احتساء شوربة المساء، عديمة الطعم. وليس له من وسائل التسلية لا المذياع ولا التلفزيون، سوى رسالة من جدّه أرسلها إليه من ساحة الحرب.
وإثرَ هذا اللقاء، تَغيَّرت حياتُه رأساً على عقب، حين أُعجبت به البنت الصغيرة "فيكتوار"، وبدأت معه سلسلة حوارات لطيفة تُمطره فيها بوابلٍ من الأسئلة من دون أن تنتظر منه جواباً أو حتى تريده، إنما هي الرغبة البريئة في الاقتراب من طفلٍ وسيمٍ، لتشاركه شجونَ الحديث، شجون علاقة غرامية طريّة، تحمل السرور إلى القارئ وتملأ البطليْن اغتباطاً.
وفي هذه الأيام، قرَّرت الكاتبة أن تُحوّل هذا الأثر الذي صار من كلاسيكيات أدب الطفولة والشباب، إلى صور كَرتونية، وهو جنس من الكتابة والرسم، يُسمّى في الغرب Bande dessinée، وهي مزجٌ بين الرسوم الهزلية والحوارات، وتُعتبر بمثابة "فن تاسع". وقد قام بهذا العمل الرسّام الفرنسي توماس باس (من مواليد ستراسبورغ سنة 1975)؛ حيث أعاد تَشكيل القصة وأقلمتها بشكل وفيّ، أضفى عليها طابعاً أصيلاً. وخلاصة هذا التلاقي نصٌّ ضاحكٌ سارٌّ، بعيداً عن سوداوية الأحداث التي تلف يومياتنا، غبطة بريئة تسرُّ القراء وتَلج بهم دُنيا الصغار.
ولا مندوحةَ عن التفكير في أدب الطفل العربي، فإذا بنصوصه مثقلةٌ بالقيم الأخلاقية، مشدودةٌ إلى رؤية الحَاكم، وسذاجة السلطة، فضلاً عن مضامينها الدينية، وبعضُها تجاوزَه العصر، ولم يعد له من مكانٍ لدى الناشئة الذين غَزت أذهانَهم الألاعيبُ الرقميّة. كما نلاحظُ غياباً تامّاً، إن لم نقل انعداماً، لأي تواصل أجناسي بين نصوص الروايات والأقاصيص العربية الحديثة والرسوم الكرتونية التي يمكن أن تجسّدها، في طلاق بائن بين هذين الجنسيْن.
وربما يكون من المفيد الانطلاق في تحقيق هذا التمازج والتكييف من خلال نصوص تجريبية كنصوص توفيق الحكيم وزكريا تامر وعلي الدوعاجي... ومن شأن مثل هذا التلاقي أن يخدم أهدافًا عديدة، لعلَّ أهمَّها الهدف التربوي البيداغوجي، نظرًا إلى أن هذا النوع من المدوّنات يتوجّه إلى الأطفال، لتشجيعهم على القراءة وترغيبهم فيها بغرض توسيع حقولهم المعجمية وإثراء مكانزهم اللغوية عبر التقاء الحوار والرسم والكلمات.
ومن جهة ثانية، قد يُسهم مثل هذا الإنتاج في تبسيط نصوص روائيّينا العرب وتحويلها من كُتلٍ صمّاء من الأسطر المتراصّة، إلى رسوم جذابة، مقترنة بحواراتٍ وعبارات، يستوعبها الطفل بسرعة ويُسر. ونخال أنَّ تدريس الضاد للصغار أو لغير الناطقين بها يمكن أن يظفر بنوعيّة جديدة من المدوّنات والوثائق، في أدب الطفل، وهو عمل لا يزال في خطواته الأولى في عالمنا العربي. كما لا يخفى أنه يمهّد السبيل للتطرّق إلى موضوعات مُعضلة، مثل الحب والموت والحرب والنفي، ولكن بطريقة تدخل السرور على الناشئة، من دون أن تتحوّل إلى وعظياتٍ باردة.
يقدم نصُّ "رسائل حب: من صفر إلى عشرٍ"، في صيغتَيه المكتوبة والمرسومة، نموذجاً من الكتابة الجذلى، التي تستلهم صورَها وحواراتها ودلالاتها من لوحات الحياة اليومية في مدرسة، فتهب القارئ فسحة من الزمن يعود عبرها إلى مراحل الطفولة الصافية وبَراءة اللغة وبساطة الحوارات التي يجترحها الصغار. ولكن لا يمكن أن ننسى أنَّ هذا من اللغة مكرٌ، وهو في الآداب خدعة، فالكاتبة والرسام كلاهُما كهلٌ وَضَعَ نفسه في ثياب طفل ليحتال علينا ولكنَّا، واعين بحيلته، نقرّر الانسياق وراءهما للوقوع في الفخ اللذيذ.