عادةً ما يُنظَر إلى هواة جمع الأعمال الفنية على أنّهم أصحاب رؤوس أموال يبحثون عن متعة غامضة. لكن يمكن أن تُشكّل مقتنياتهم رؤية منهجية للفن أو للحظة منه، كما في معرض "الفن كإيحاء"، الذي اختتم قبل أيام في "غاليري ومتحف إيطاليا" في ميلانو، وضمَّ أعمالاً لمجموعةٍ من الفنّانين الإيطاليّين والأميركيّين الذين كان لهم تأثيرٌ كبير على الفن المعاصر في العقدَين السادس والسابع من القرن الماضي.
يُمثّل المعرض "حواراً بين ضفّتَي الأطلسي"، حسب صاحبَي هذه المجموعة من الأعمال الفنية، وهما الأخوان الإيطاليّان أغراتي، اللذان تبرّعا بها، قبل رحيلهما، إلى "بنك إنتيزا سان باولو".
تعكس المجموعة لحظةً مهمّة في تاريخ هواة جمع الأعمال الفنية في إيطاليا خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وكان حافزها شغفا بالفن واعتباره رؤيةً شخصيّة محضة وغير مقيّدة بمقتضيات الميول الدارجة أو اتجاهات السوق. وجهة أخرى، تؤكّد تلك الروابط التي لم تنفصل أواصرها بين الفن وأصحاب رؤوس الأموال منذ عصر النهضة وإلى غاية وقتنا الحاضر.
والمعرض هو الفرصة الأولى لتمكين الجمهور من تقييم المجموعة عبر انتقاء تمثيليّ لأعمال من الفنّ الإيطالي والأميركي، ابتداءً من أوّل نواة كبيرة موزّعة عبر أكثر من صالة لمنحوتات الفنّان فاوستو ميليتّي، والتي تُشكل محور المعرض، وصولاً إلى أعمال ألبرتو بورِّي، وإيف كلاين، وبييرو مانتسوني.
وعبر مسار شيّق بين صالات "قصر أنغويسّولا أنطونا ترافيرسي" الذي يعود تاريخ بنائه إلى القرن الخامس عشر، يستكشف الزائر رسومات ومنحوتات وتجهيزات "الموجة الإيطالية الجديدة"، من بينها أعمال يانّيس كونيلليس وماريو سكيفانو، وصولاً إلى جذور "الفن الفقير"، متمثّلة في أبحاث وتجارب بييرو جيلاردي، ولوتشيانو فابرو، وماريو ميرتس، وجوليو باوليني.
وعلى الرغم من العدد القليل لأعماله، تستأثر لوحات لوتشيانو فونتانا (1899 - 1968)، في المجموعة، على اهتمام كبير من قبل الزوّار، وهي أعمال أحادية اللون مع شرخ مركزي حسّاس يتدفّق منه نهر لا ينضب من التفسيرات والتساؤلات.
هذه المقتنيات كانت حصيلة علاقات متينة للأخوين أغراتي مع الفنّانين، وارتيادهما أبرز المعارض وحلقات النقاش على الساحة الفنّية الدولية، وهي، من جهة أخرى، تجمع في طيّاتها حواراً مثيراً وأصيلاً حول تطوّرات الفن الإيطالي والأوروبي من خمسينيات إلى ثمانينيات القرن الماضي، مع إيلاء اهتمام خاص للتيارات الأميركية في الستينيات والسبعينيات.
يتوافق اكتشاف الفنّ الأميركي في إيطاليا، الذي بدأ الاهتمام به بالتوازي مع تطوّر العلاقات بين البلدين، مع شراء أعمال لفنانين كبار مثل لوحة "ثلاثية إلفيس" لآندي وارهول والنيون العملاق لدون فلافين.
وفي ما يشبه كوكبة أعمال متناثرة تَظهر جنباً إلى جنب مع الفنّ الإيطالي، تأتي أعمال روبرت راوشنبرغ التي تمّ شراؤها على نطاق واسع، ليس فقط من قبل الأخوين أغراتي، مع نهايات الستينيات إلى الثمانينيات من القرن الماضي، وكذلك أعمال كي تومبلي، الوسيط النشط ما بين ثقافة ما وراء البحار والثقافة الإيطالية والفنّانين التصوريّين، وهو فنّ تشترك فيه المفاهيم التي تكون لها الأولوية على الاهتمامات المادية والجمالية التقليدية؛ كما في أعمال بروس نَوْمان وجوزيف كوزوث، حيث تمّ وضع أبحاثه حول الأسلوب بطريقة تبدو وكأنها في حوار مشترك مع أعمال الإيطاليًّين أليغييرو بويِتّي وفينتشينسو أنيِتّي.
يعكس المعرض طريقة تصوّر المجموعة كإيحاء وإثراء، ومشاركة عالم ممكن من اللوحات متعدّدة المناهج، والتي تجسّد الحياة المعاصرة وولع الإنسان بالفن؛ حيث تمثّل المجموعة، بشكل واضح، الأنماط المختلفة والأساليب الإبداعية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية والتيارات الفنّية التي انبثقت عنها.