غير أن ثمة ما هو أكثر إثارة للخوف والقلق من هذه المواجهات، التي تحلّ عبر الإجراءات، يكمن في التصريحات السياسية، من الروس أو الأميركيين عن احتمالات تقسيم جديد للخريطة، يلغي سايكس بيكو، ويقيم جغرافيا أخرى محلها. هذا عدا ما تشكله الوقائع الحربية وتبدل أماكن سيطرة القوى المسلحة على الأرض بين فترة وأخرى، بحيث ينشأ سؤال مضمر يحكّ جلد السوري وعقله ووجدانه عن مصير "الهوية" السورية في الزمن القادم.
من منا سيبقى "سوريّاً" أي ضمن سورية الدولة، ومن منا سينتقل، بحسب الجغرافيا التي يخطط لها الروسي أو الأميركي، إلى هوية أخرى لا يعلم إلا الله، وأصحاب القرار الدولي في مكاتب المؤامرات والاتفاقيات الدولية، ماهيتها؟ ما الأسماء الجديدة التي يعدّها ساسة الغرف المغلقة لهوياتنا؟ وما الذي يمكن أن تنشغل به؟
سايكس بيكو ليست مجرد مؤامرة دولية لتقسيم سورية، وحسب، بل هي خطوط أقلام شكلت، أو أعادت تشكيل الهويات الوطنية، ولذلك فإن الرعب من الخرائط مشروع في هذه البلاد، فقد كان يمكن لقلم السيد سايكس، أو لأحد شريكيه الفرنسي والروسي أن يشطح هنا أو هناك، على الحدود، فتغدو "الميادين" عراقية، أو "القائم" سورية، أو تصبح "درعا" أردنية، أو "الرمثا" سورية، وسيكون على السكان في هذه المدن أن يتكيّفوا عبر التاريخ المعاصر مع شطحات القلم المتآمر، كي يؤكدوا الهوية الجديدة الممنوحة لهم من أجنبي مستعمر يحتسي شاي المساء.
لكن حين أقر النشيد الوطني السوري "حماة الديار"، لم يكن يتحدث عن الهوية الوطنية، على غرار النشيد الوطني المصري، أو الجزائري مثلاً، بل عن الجيش وحده، فالمدني الذي لم يكن قد وثق بعد من هويته الجديدة، آثر الاختباء خلف الحماسة العسكرية التي تشيد بالقوة التي يمكن أن تحمي تلك الهوية، ريثما يتم التأكد من رسوخها. وقد احتجنا لسبعين سنة من التفكير والعمل، بعد الاستقلال من المستعمر، كي نحاول تشكيل الهوية، على الرغم من أن العربي والكردي والآشوري والسرياني والأرمني والشركسي صاروا سوريين، يحملون بطاقة "الهوية" السورية، وأن أحد نضالات آلاف الأكراد انصب على انتزاع الهوية السورية طوال عدة عقود، وقد صرنا نتحدث عن الرواية السورية، والشعر السوري، والمسرح السوري، فإننا لم ننجح تماماً في تشكيل الهوية أو ترسيخها. فقد ظلت الهويات الصغيرة الطائفية والإثنية أكثر قوة من الهوية السورية.
في السنوات الأخيرة من القرن العشرين، امتلأت الصحافة السورية، وندوات الحوار، بالحديث عن الغزو الذي يأتي من جهات الثقافة لتهديد الهوية. واستنجدوا بالمثقفين للدفاع عنها. أما اليوم فإن الخطر يأتي من جهات الجيوش، وليس لدى السوري من يستنجد به.