كيف يُمكننا الحديث عن تاريخٍ للغات، يمتدّ من قبل نَشأة الكتابة إلى يومنا هذا، حيث لا توجد وثائق يمكن الاعتماد عليها في إعادة بناء نقطة التحوّل الأولى التي صار بَعدها "الإنسان" ناطقاً، متعالياً عن مرتبة الحيوانية إلى المراتب الثقافية؟ وكيف يتسنّى الحديث عن اللغة، بوصفها "حدثاً اجتماعيّاً"، بحسب توصيف مُؤسس الألسنية فرديناند دي سوسير القاطع مع التصورات اللاهوتية والأسطورية لها، وتأكيد دورها الحضاري في تَحديد مصائر الشعوب ورَسم ثقافاتها؟ وأخيراً، كيف يمكن الإمساكُ بحدود اللغات، وهي واهيةٌ غير متينةٍ، بالنظر إلى الحركيّة الدؤوبة القائمة بينها ضمن عمليات الاقتراض والانتقال والتأثر والتأثير في كنف الحَضارات التي عَمرت العالم على مدى الأحقاب؟ إذ الكَلِمُ سيَّارة مُسافرةٌ، تتصادم وتتعايش ويُؤثر بعضها في بعضٍ على الدوام، مما يفضي إما إلى انطفائها أو إعادة ظهورها. هذه هي مَجموعة الأسئلة التي تصدَّى لها الباحث الفرنسي، جان سِلْييه، في كتابه الجديد: "تاريخ اللغات والشعوب التي تتكلمها"، الصادر في تشرين الأول/ أكتوبر 2019 عن دار لاديكوفارت بباريس.
وأول ما واجهه من الصعوبات في سبيل الإجابة عنها هو العدد الهائل للغات المستخدمة حول العالم والذي يقارب، اليوم، الستة آلاف لغة منتشرة بين أقطاره فضلاً عن تلك التي تلاشت، الأمر الذي يجعل تتبع هذا العدد الكبير شبه مستحيل. ولذلك، ركَّز المُؤلف على اللغات التي يمكن استجلاء تاريخها، بفضل ما لها من الشواهد والآثار وما كُتب في شأنها من الدراسات والأبحاث.
تمتدُّ هذه السردية التي يقترحها المؤرخ عن لغات العالم إلى ثلاث مَراحل: زمن ما قبل الكتابة، وهو طورٌ موغلٌ في الغموض والالتباس ولا يتوفر عنه ما يكفي من النصوص والشواهد لتوصيف أبنية اللغات واشتغالها. وحتى نفهم صعوبة درس هذه المرحلة، يكفي الاستدلال بتاريخ العربية في القرن الثاني للميلاد مثلاً وعُسر، بل استحالة، وضع تصور واضح عن حال الضاد وقتها، مُعجَمِها ونحوِها والمجازات. ثم مرحلة الرصيد الشفوي والكتابة المحدودة، التي لا تملك امتيازَها إلا قلة قليلة من "الكَتَبَة". وأخيراً، طور الانتشار الواسع للنصوص المطبوعة. وهو تقسيمٌ متفاوت بحسب الجهات، يختلف تَرتيبُه من مِنطقة إلى أخرى.
وعليه، يَتَألّف الكتابُ من سلسلة وَحداتٍ نُظّمت بتقسيم زماني ومكاني وفق ثنائية: "عَصْر ومِصْر"، تمَكِّن القارئَ من متابعة الخيط الناظم للتطوّرات التي شهدتها المجتمعات البشريّة عبر تاريخها الطويل. كما يتاح له التجوّل في تلك المناطق بحسب فضوله والفترات أو الجهات التي تستأثر باهتمامه. كما اجتهد الكاتب في الوقوف على اللغات الكلاسيكية وبعضها قد انقرض مثل بعض اللهجات الأفريقية واللغات مثل السنسكريتية واللاتينية، إلى جانب الاعتناء باللغات الحديثة، مثل العربية والإنكليزية والفرنسية وغيرها. وبهذا الخيط الناظم تمكّن المؤرخ الفرنسي من وضع "توليفة" أو خلاصة شاملة تَربط بين سائر اللغات على تباينها وتجمع شتاتَ الشعوب والثقافات على شَطَط ما بَيْنَها.
وهكذا، تمكَّن صاحب "أطلس شعوب الشرق" من القطع مع أنماط الدراسات التي سادت في السنوات الأخيرة عن اللغات، بعد ازدهار الألسنيات واختراقها لسائر العلوم الإنسانية. وجلها كُتبٌ وصفيّة تركز في تحاليلها على الأبعاد الصوتية والصرفية والدلالية للألسن المدروسة، وغالباً ما تهمل رسم خط تطوري لها يضعها في تاريخ شاملٍ. وهذا نفسُه يَصدق على الضاد، حيث لا تكاد توجد دراسات حقيقية تعنى بتَطوّرها ولا سيما في العصور الوسطى والفترة الحديثة، عدا نظرات مجتزأة هنا وهناك.
كما قَطع هذا التاريخ الجديد مع المقاربات القطاعية والجزئية التي لا تهتم سوى بجوانب خاصة، عبر وضع تاريخ يكاد يكون جامعًا للغات، يُغطّي علاقات بعضها ببعض، بما فيها اللغات البعيدة، بل ويربط هذا النشاط البشري الرئيس بتاريخ ثقافي شامل، بما يتخلله من تدخلات سياسيّة، مثل فرض السلطة للغةٍ ما واعتبارها رسمية بحكم القوة والقانون، ومثل هيمنة اللغات الغالبة والإزراء بلسان الأقلية أو بلهجات المغلوبين، باعتبارها إما "لغة مهمشة" أو "عامية سوقية"، وكذلك النظر في علاقات اللغات بالدين والسلطة والمجتمع.
وهذا عيْن ما عالجه سلييه حينما درس العلاقات التي انعقدت بين الديانة الزرادشتية والإمبراطورية الساسانية أو وضعَ اللغات في ظل الخلافة العثمانية حيث تعايشت العربية الفصحى مع التركية، وكذلك لغات الاستعمار الغربي التي فَرضها على الشعوب المستعمَرَة.
ويمكن لهذا التساؤل أن يشمل وضع لغة ما عبر إتقان كتابتها وبلاغتها ضمن مجتمع ما، يفضي فيه التمكّن من ناصيتها إلى إعطاء قيمة اجتماعية للمتكلم، مثلما هو شأن الفرنسية منذ عصر الثورة.
تقتضي هذه المقاربة الشاملة تضافر ثلاثة منظوراتٍ تتكامل في ما بَينها وهي: المنظور الشكلي بوصفه دراسةً لأبنية اللغة ومستوياتها وعلاقاتها الصوتية والصرفية والنحوية والمعجمية. ثم المنظور التاريخي- الاجتماعي الذي يَضع اللغة ضمن الصراعات والظواهر المجتمعية وأخيراً المنظور السياسي الذي يستعيد السياسات اللغوية سواء التي تلك تفرضها السلطة أو يستمدّها اللسان من تأثيره فيها.
ولتطبيق هذه المقاربة الثلاثية النشطة، اعتمد الباحث الفرنسي على توجّه قسَّم من خلاله العالمَ إلى دوائر تاريخية وجغرافية، وذلك بِحكم تكوينه الأصلي الذي جمع فيه بين فنَّي التاريخ والجغرافيا. كما أضافَ في ملاحق الكتاب عدداً لا يستهان به من الخرائط والتوضيحات التي تساعد القارئ في فهم شبكة العلاقات المنعقدة بين الأمصار والعصور. وعَليْه، يمكن الولوج إلى هذا الكتاب عبر أيّ قسمٍ: "المرحلة القديمة"، و"أوروبا العصور الوسطى"، و"العالم العربي والعثماني-الإيراني"، و"المنطقة الصينية" و"أفريقيا جنوب الصحراء"...
وتجدر الإشارة أخيراً إلى أنَّ العمل صَدَر في قلب نقاشاتٍ ضارية، في فرنسا، حول الهوية الوطنية والتراث القومي في ظل صعود الأحزاب اليمينية، حيث تسعى السلطات إلى فرض لغة رسمية واحدة وتهميش ما سواها من اللغات واللهجات. وهذا ما بَيَّنه صاحب "أطلس شعوب أفريقيا" حين درس مقولتَي "الفرنكوفونية" و"اللهجات"، وكلتاهما استُغِلَّت من قبل الأجهزة السلطوية من أجل فرض نمط لغوي على المجتمع.
وهكذا، فالكتاب مَدخل موسوعي جديدٌ لفهم العلاقات المعقدة بين اللغة والثقافة وهي علاقات غالباً ما نُظر إليها بشيء من السطحية فبَيَّن الكاتبُ أنَّ اللغة إنما هي حركية حية دائمة بين الثقافات والحضارات، تبتكر عبرها القصصَ المحتَمَلة بين الشعوب التي تترجم بعضها للبعض الآخر. وذلك ما لخَّصه الألسني رومان جاكسون بقوله: "تتفاعل اللغة والثقافة بشكل متبادلٍ، فاللغة ينبغي أن تعتبر جزءاً لا يتجزأ من الحياة الاجتماعية، وعندما نحدد ماهية اللغة علينا أن نقارنها بسائر الأنظمة الرمزية".
يقودنا هذا الكتاب حتماً إلى استعادة ما كتب عن تاريخ الضاد. وإلقاء نظرة سريعة يؤكد أن هذا التاريخ لم يكتب بعدُ، ولا يمكن أن ينهض به باحث واحدٌ. فمنذ عموميات عمر فروخ ومصطفى صادق الرافعي وشارل بلا وأندريه ميكيل، لم تعرف العربية تاريخاً جامعاً لها، يضعها في قلب التوترات بين السياسة والثقافة والنظام الشكلي. ولعل ترجمة القسم الخاص بالعربية، من هذا الكتاب، كفيلة بأن تكون منطلقاً لصياغة تاريخ أدق بحكم أن سِلييه يجهل الضاد، ولا يتقن دقائق تطوراتها، وهي خفية.
سلسلة من الأطالس
يجمع المؤلف جان سِلييه بين اختصاصي التاريخ والجغرافيا، وقد سبق له أن نشر "أطلس شعوب آسيا" و"أطلس شعوب آسيا الجنوبية والشرقية"، كما وضع رفقة أبيه أندريه سِلييه سلسلة من الأطالس أشهرها: "أطلس شعوب الشرق" و"أطلس شعوب افريقيا" و"أطلس شعوب آسيا" وغيرها، وهو ما يؤكد أنَّ الرجل سَخَّر كلَّ طاقاته لوضع الخرائط الدقيقة في وصف الجغرافية البشرية في علاقة الشعوب بالأراضي التي تَعمُرها.